حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

تقنيات القتال القديمة في بلاد ما بين النهرين
أضف رد جديد
ايسوس العراق

حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 6:56 pm

"العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكار الفلسفية"
العلوم والمعرفة
شبكة البصرة
د. عبد الوهاب حميد رشيد


دفعت سلسلة التطورات الحضارية لبلاد الرافدين منذ العصور الحجرية ولغاية بداية التاريخ مطلع الألف الثالث ق.م إلى الحاجة لنشوء وتطور العلوم والمعرفة والممارسات التقنية والعلمية لضبط مشاريع الري وإقامة السدود وشق الترع والسيطرة على مياه الفيضانات وصناعة التعدين والأدوات والآلات وضبط الفصول وقياس الزمن وغيرها.. وهكذا نشأت طائفة من العلوم والمعارف (الرياضيات، الجبر، الفلك، الطب، الكيمياء، البناء، النحت..). وفي جهودهم ودراساتهم خلَّفوا قوائم مطولة بِأسماء وأصناف الحيوانات والنباتات، هذا رغم المظهر السلبي في محاولة البابليين العملية المحضة حل مشكلة تصنيف النباتات المختلفة على أساس الرجوع لفوائدها واستعمالاتها الشائعة بدلاً من اعتبارات المبادئ العلمية(1).
توفرت لدى السومريين والبابليين والآشوريين المواصفات المطلوبة لذهنية ذات توجه علمي بشكل حقيقي. امتازوا قبل كل شيء بتطلعهم الشديد لضروب المعرفة: جمع الرقم القديمة، تأسيس متاحف للآثار، جلب أنواع نادرة من النباتات والحيوانات غير المعروفة من مناطق بعيدة. كما اتصفوا بالصبر والولع بالتفاصيل، وأمتلكوا قوة ملاحظة نفاذة، ودرسوا الطبيعة بحماس مسجلين وموحدين كمية كبيرة من المعلومات الخالصة أكثر من توخي أغراضهالعلمية

اشتهرت حضارة وادي الرافدين أنها خلَّفت الكثير من القوائم المطولة في كافة المجالات: الحوليات الملكية، أسماء الملوك وكبار رجالات الحاشية والعائلات النبيلة، قوائم بِأحداث متسلسلة ومؤرخة، جداول رياضية فلكية، قوائم طبية، قوائم بِأسماء وأصناف الآلهة، والمعابد والأعياد، النذر والشؤم.. "وكثيراً ما يطلق على علوم وادي الرافدين بشيء من السخرية اسم (علم القوائم)... ولكن ما يجب تأكيده أن التعليم كان في واقعه شفهياً فقط، وأن الوثائق التي بقيت ليست أكثر من (كتيبات) أو (ملازم جيب) لا يمكن الحكم عليها بإعتبارها مناهج مدرسية. فمن المؤكد أن البابليين كانوا يعرفون معلومات أكثر بكثير مما دونوها في كتاباتهم. دليل ذلك أن نقل ونصب كتل كبيرة من الحجارة وشق القنوات الطويلة لسحب المياه يستوجب بالأساس معرفة متقدمة لعدة قوانين فيزياوية(3)."
يذكر المؤرخ بيروس- كاهن معبد بابل- الذي ترجم إلى اليونانية مؤلفات البابليين عن الفلك والتنجيم، ووضع عن بابل تاريخاً مفصلاً في ثلاثة أجزاء باليونانية (ضاعت مؤلفاته وبقيت فصول وإشارات إليها في مؤلفات بعض الاغريق) أحاديث قديمة جداً عن بداية حضارة وادي الرافدين. ووفقاً لما ذكره: رأى السكان البدائيون (الأوائل) ممن استوطنوا المنطقة الكائنة حول الخليج العربي مخلوقاً غريباً (خرافياً) عرف باسم (اونيس) OANNES كان نصف إنسان ونصف سمكة. يخرج هذا المخلوق من الماء ليقضي النهار بين الناس مرشداً إياهم لكل فرع من فروع المعرفة، ثم يرجع كل ليلة للاعماق. استمر ظهور مثل هذا المخلوق أربع مرات، وكان كل مخلوق يكمل العمل الذي بدأه سابقه. ونتيجة لهذا المفهوم عن المعرفة الموحى بها صارت هذه المعرفة ليست محترمة، حسب، بل ومقدسة أيضاً. وظهر التأثير الأول لهذا المفهوم في حصر انتشار هذه المعرفة، فأصبح من غير المناسب نشرها على نطاق واسع، بل وجب حصرها بين قلة مختارة جديرة بها. وهذا يعني أولاً وقبل كل شيء (الكهان) الذين يعتبرون قيمين عليها، وهم بدورهم يهبونها لمن يثبت أنه يستحقها وبخاصة المتمرنين(4).
وكان السومريون أول من ابتكر فكرة مرور الإنسان في عصر ذهبي (الجنة) معتمداً ذلك على ما ورد في إحدى الأساطير التي تتحدث عن الأزمنة الغابرة.. "في تلك الايام لم تكن الحية في الوجود، ولم يكن العقرب، ولم يوجد الضبع والأسد، ولم يكن الكلب الوحشي ولا الذئب، لم يكن خوف ولا هلع، ولم يكن للإنسان من غريم… في تلك الأيام كانت أرض الشرق، موضع الخير العميم وموضع الأحكام العادلة... وكانت بلاد سومر ذات اللسان الواحد المنسجم، هي البلاد العظيمة التي نبعت منها أحكام الإمارة... وكان الشمال، الأرض المحتوية على كل ما يحتاج اليه، وكانت بلاد الغرب آمنة مطمئنة… كان الكون جميعه، والناس كلهم، يمجدون انليل بلسان واحد(5)."
وفي إقراره بفضل حضارة وادي الرافدين على الحضارة الاغريقية والحضارة المعاصرة، يقول جورج رو "بالنسبة لنا نحن أبناء القرن العشرين يجدر بنا أن نعترف بديننا لسكان وادي الرافدين القدماء. وفي الوقت الذي نقدم فيه على كبح جماح الذرة ونعد أنفسنا لإكتشاف النجوم، فإن من العدل أن نتذكر بِأننا ندين للبابليين بالمبادئ الأساسية لرياضياتنا وفلكنا بضمنها نظامنا في الأرقام ذات القيمة المرتبية والنظام الستيني الذي ما نزال نقسم بواسطته دائراتنا وساعاتنا... هناك أيضاً الكثير من الأصول العراقية القديمة التي يمكن تحريها في الكتاب المقدس… وفي الواقع فإن الأساتذة الكلاسيكيين الذين وقفوا مبهورين لفترة طويلة أمام ما تدعى (المعجزة الاغريقية) بدءوا الآن يدركون كامل حجم الزخم الهائل للتأثيرات الشرقية على النواحي المولدة من الفكر والفن والأخلاق الاغريقية. وكان الشرق معتمداً بدرجة كبيرة على حضارة وادي الرافدين طوال الجزء الأكبر من الحقبة التاريخية ما قبل الكلاسيكية(6)." ورغم تسربله بالخرافات، تميز طب وادي الرافدين ببعض سمات العلم الإيجابي "وهو العلم الذي انتقل إلى الاغريق وعبَّد الطريق مع الطب المصري للقيام بالإصلاح الابقراطي العظيم للطب في القرن الخامس ق.م(7)."
وهناك دلالات قوية على اكتشاف الرياضيين البابليين لما يسمى بنظرية فيثاغورس (القرن السادس ق.م) قبل فيثاغورس بِأكثر من 1500 عام(8). "ويوجد الآن اعتراف عام بِأن الأسطورة الايشوبية كانت لها سابقتها السومرية الاكدية، وأن كلكامش هو نسخة طبق الأصل من هرقل واوانيس مجتمعين. بينما تكشف لنا حالاً نظرة سريعة على التماثيل والدمى القديمة للقسم القاري الساحلي من بلاد اليونان تشابهاً قوياً مع الأعمال الفنية السابقة أو المعاصرة لها في بلاد وادي الرافدين… وإذا وجب تقديم عرض لتأثير حضارة وادي الرافدين على حضارة عظيمة في منزلة حضارة اليونان، عندئذ من البديهي التسليم بالاعتقاد الثابت بِأن حضارة وادي الرافدين قد أحدثت تأثيرات أعظم على البلدان الأُخرى في الشرق الأدنى." وحسب رو يذهب البروفسور روستو فنزيف، "وهو أحد العلماء القلائل المتخصصين عن جدارة بتاريخ العالمين الهيلين والشرق"، إلى أبعد من ذلك في استعراضه لتأثير حضارات وادي الرافدين على الحضارات الأُخرى، ووفقاً له "يتزايد بإطراد إدراكنا بعظم تأثير الفن البابلي والفارسي على التطور الفني في بلاد الهند والصين كلما تعمقنا في البحث والإستقصاء(9)."
ويذكر الباحث السويدي زيتر هولم: ليست حضارات وادي الرافدين السومرية والبابلية أقدم الحضارات في التاريخ حسب، بل أننا نجد أنفسنا في هذه الحضارات- أساطيرنا وملاحمنا وحتى ديننا. نعم أن الكثير مما تعلَّمناه ناظرين إليه كإرث للاغريق واليهود يعود إلى هذه الحضارات.. هنا قبل 1500 سنة على اقليدس وهوميروس صيغت نظرية اقليدس وكتبت أول ملحمة في التاريخ. هنا ظهرت الحكايات والأساطير وقصص نشوء الخليقة والطوفان قبل أسفار موسى الخمس.. هنا منبع حكايات وقصص هابيل وقابيل.. لقد بنى السومريون الحضارة البشرية الأولى، وساهموا في نقل التطور البشري من العصر الحجري وعالم ما قبل التاريخ إلى عصر الزراعة والاستقرار وبناء الحضارة البشرية الأولى. السومريون هم أول من أوجدوا اللغة المكتوبة، وبنوا السدود والقنوات لزراعتهم، وثبتوا نظام التوقيت. كان السومريون معلمي الرياضيات لكل من الاغريق والعرب، خلَّفوا الأدب العلماني، وكتبوا الأمثال والقصائد والمجموعات الشعرية وملاحم البطولة، كما تركوا أقدم رسالة حب تعود إلى خمسة آلاف سنة (10).
إنصبت جهود سكان وادي الرافدين في مجال الكيمياء على تطبيقاته العملية، وعرفوا المعادن ومعالجة المواد المعدنية وتنقيتها، وتميزوا بمهارة ودقة تصنيعها وتشكيل السبائك غير المألوفة(11). أما في مجال التاريخ فلم يفطن القوم لتحديد نقطة تاريخية لكتابة التاريخ على أساسها كما هو قائم حالياً بالنسبة للتاريخ المسيحي (الميلادي) والتاريخ الإسلامي (الهجري)، بل كانوا يؤرخون السنين حسب الحوادث المهمة، ومن ثم أدخل الكشيون (العصر البابلي الوسيط) طريقة جديدة تستند إلى تسلسل سني حكم الملوك(12).
وفي حقل الجغرافية، تركوا "خارطة للعالم" بدائية (600 ق.م). إذ كانت فكرة القوم عن الأرض شديدة الغموض. فلم يلتفتوا إلى مشاكل تعريف علم الكون بسبب تركيز جهودهم على معرفة أنساب ونظام مجمع الآلهة. بينما تركزت أغلب النصوص الجغرافية على قوائم بِأسماء البلدان والجبال والأنهار والمدن بالإضافة إلى خطوط المواصلات "المفيدة جداً لتسهيل مهمة الأسفار والتجارة وتعريف المسافات بينها". لكن المثير للإعجاب طرقهم في رسم مخططات المدن والأراضي التي "هي نفس طرائقنا التي نستعملها اليوم". كما تبين وثائق بيع الضياع والحقوق والبيوت درجة متطورة من المعرفة الرياضية لتذليل مشاكل المسح، ودقة متناهية في رسم مخططات المدن، كما في مخطط نفر. "وقد أثبت هذا المخطط أنه يتطابق تطابقاً عجيباً مع المخططات التي رسمتها البعثة الامريكية أثناء تنقيبها في المدينة(13)."
وأخيراً، أبدع أهل وادي الرافدين في مجال الفنون والعمارة، لكونها أحد الحقول الأكثر قرباً لخدمة الآلهة- المعبد والقصر. لذلك ترك فن وادي الرافدين أثره حتى على وادي النيل، بالإضافة إلى اليونان، كما هو واضح في العمود الايوني الذي يرجع أصله إلى بلاد سومر، إذ كان رمزاً دينياً في العصر الشبيه بالكتابي. وترجع أصول المعرفة بـ "شجرة الحياة" وانتشار تسميتها إلى الفن السومري، فقد جاء ذكرها في سفر التكوين من التوراة عند الحديث عن خطيئة آدم وحواء في جنة عدن(14).



الكتابة والمدرسة


تشكل الكتابة باعتبارها أداة التدوين، الإنجاز الأعظم لحضارة وادي الرافدين. تحقق لأِول مرة في تاريخ البشرية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة بدءاً بالكتابة الصورية (العصر الشبيه بالكتابي) ولغاية الكتابة المسمارية (العصر التاريخي) ولتستمر مستخدَمة حتى آخر أدوار هذه الحضارة. عُثر على نص مسماري معروض في متحف بغداد يعود إلى سنة 50 ق.م(15). واكتشفت أقدم وثيقة تتضمن كتابة صورية في اوروك (الوركاء) تعود إلى نهاية الألف الرابع ق.م، قبل أن تتطور إلى الكتابة المسمارية في حدود منتصف الألفية الثالثة ق.م. وهكذا كانت للحضارة السومرية الفضل في نقل لبشرية من ظلام (أميتها) التي استغرقت أكثر من 99% من عمر الإنسان على هذه الارض والممتدة بحدود 2-3 مليون سنة(16).
وتسمية الكتابة السومرية بـ "المسمارية" cuneiform مشتقة من اللاتينية: cunei "مسمار" وform "شكل". ذلك أن العلامات المسمارية تتكون من رؤوس مدببة تشبه المسامير. وتحقق إكتشافها إرتباطاً بنمو الحاجة لحفظ سجلات بإِيرادات ومصروفات المعبد، علاوة على نمو اقتصاد دولة المدينة(17).
كانت المدرسة معروفة منذ بداية استخدام الكتابة وسيلة للتدوين (الألف الثالث ق.م). كما وردت إشارت لوجود المدرسة منذ العهد السومري كمؤسسة تعليمية. والحزورة السومرية التالية تلمح إلى معنى المدرسة: بيت بأسس السماء، البيت الذي يشبه وزة واقفة على قاعدة متينة، يدخلها المرء بعيون مغلقة، ويخرج منها بعيون مفتوحة، فما هي؟.. أطلق السومريون على المدرسة اسم (أي- دبا) edubba- بيت الألواح tablet house- وسمي التلميذ (إبن بيت الألواح). وكانت المعابد تنظم المدارس في بداياتها المبكرة، وشكلت جزءاً ملحقاً بها، وأشبه ما تكون بمؤسسة دينية لتدريب الكهنة والأشخاص الذين يلتحقون بوظائف الكتبة في خدمة المعابد والقصور.
ومع تطور أركان الدولة والمؤسسات الاجتماعية، خاصة بعد العام 2000 ق.م (العهد البابلي القديم) عندئذ ظهرت المدارس الرسمية خارج المعابد تحت إشراف القصر والكهنة. وكان التعليم يشمل، بالإضافة للكتابة، فروعاً من العلوم والمعارف للقادرين على المواصلة: الرياضيات، الفلك، الطب، الأدب، الموسيقى، القانون.. كما استخدم الخط المسماري لتدوين اللغتين السومرية والاكدية. لكن صعوبة تعلم الخط المسماري والتكاليف العالية نسبياً التي تطلبتها مهمة تعلمها على مدى سنوات عديدة جعلتها محصورة في عائلات معينة يتوارثها الأبناء من الأباء لأِجيال عديدة(18). وربما اقتصرت المدرسة على الأولاد الذكور، حيث لم يرد نص بذكر المرأة- عدا الكاهنات حيث كن متعلمات- رغم اكتشاف حالة موثقة عن إمرأة كاتبة وطبيبة. وهذا يُشير إلى إحتمال حصول قلة من الإناث على تعليم خصوصي. يضاف إلى صعوبات الكتابة السومرية وعدم تطورها للمرحلة الهجائية، كثرة علاماتها في البداية لتتجاوز 2000 علامة، أمكن اختزالها إلى حدود 800 علامة في نهاية عصر فجر السلالات (2600 ق.م) ولم تنخفض عن 600 علامة في المراحل التالية(19). كما وجدت مكتبات لحفظ الرقم في سلال معمولة من الطين والقصب ويوضع معها بطاقة تعريفية، لكن أهم وأكبر المكتبات التي عرفتها حضارة وادي الرافدين هي مكتبة آشور بانيبال(20).
ويبدأ التدريس في سن مبكرة دون العاشرة، وإذا كان الولد تلميذاً نهارياً عليه النهوض مع شروق الشمس وأخذ طعامه (غدائه) معه للمدرسة. وإذا وصل متأخراً فإنه يُضرب بالفلقة، وينتظره نفس المصير لأِي مخالفة يرتكبها أثناء الدوام الرسمي أو لإِخفاقه في أداء واجباته على نحو مرضٍ(21). عُرِفَ مدير المدرسة باسم "أب المدرسة" School Father، ولُقّب المدرس "الأخ الأكبر" Big Brother، وكان المعلم محل تقدير وتبجيل. يخاطب أحد الطلبة السومريين معلمه " أنت إِله، وحيث أن الإِله يصنع الإنسان فأنت إِلهي لأِنك صنعت في الإنسان(22)."
وكان المنهج الدراسي طويلاً وصارماً، يستغرق سنوات طويلة ويتطلب تفرغاً كاملاً، ويعتمد الحفظ أساساً، خاصة في المرحلة المبكرة. وكان أول شيء يترتب على التلميذ هو أن يصبح حاذقاً في اللغة السومرية. ويتمرن على استنساخ واستظهار قوائم طويلة لأسماء ومصطلحات. وإذا أحرز تطوراً وافياً في أساسيات حرفته أمكنه مواصلة دراسته في فرع من فروع العلوم المختلفة. والجدير بالذكر أن العلاقات الشخصية كانت تؤثر في موقع الطالب. تذكر وثيقة مدونة حوالي 2000 ق.م بأن نتائج أحد الطلاب كانت سيئة وتعرض للضرب كثيراً لسوء أدائه إلى حدود أصبح كارهاً للمدرسة. تغيرت الحالة عندما بادر والده الغني دعوة مدير المدرسة لمنزله. وبعد تزييته من قبل الخدم وتقديم الطعام له وثوب جديد وشيء من الراتب الإضافي ووضع خاتماً في إصبعه، تغيرت العلاقة بين المدرسين وبين التلميذ الغني..(23)! ولعلَّ جميع فئات الكهنة تلقوا تدريبهم الأول بصفة كتبة على الرغم من أن المؤهلات الخاصة بالكهنوتية أشد صرامة من تدريس اللغة وتعلم الكتابة، ولم تكن أبواب الكهنوت مفتوحة للجميع. فمثلا اشترط بالنسبة للعرافين أن يكونوا من ذوي المولد النبيل والبنية السليمة (ف10/3). وكان مطلوباً من أي شخص في أي وظيفة في المعبد لغاية الألف الأول ق.م أن يكون سليم البدن (24).
احتل الكاتب أهمية اجتماعية عالية في حضارة وادي الرافدين، وكان صاحب هذه المهنة يحقق منزلة رفيعة prestige(25). يذكر نص سومري "الكتابة هي أم الخطباء وأب التلاميذ (26)." وكان الكاتب الجيد هو من أتقن معرفة مهنته جيداً. وهذا يتطلب فيه قوة الذاكرة(27). وعُرف الكاتب الجيد من قدرته على سرعة إنجاز ما يدونه "الكاتب الذي تتحرك يده بسرعة حركة الفم نفسها هو الكاتب الذي ينفعك(28)." ولعلَّ من الطريف ملاحظة أن التقليد الخاص بكتابة الرسائل، على الأقل في بعض مواصفاتها، لا زالت متبعة حتى الوقت الحاضر، إذ اتصفت بالجمود، خاصة ما يتعلق بالفاتحة والخاتمة(29).
هل كانت المنزلة العالية للكاتب محصوراً في العصر السومري، أو العصر السومري والبابلي فقط؟! لقد عثر المنقبون على لوح يعود إلى العصر الآشوري الحديث يذكر فيه أحد الآشوريين "إن بيت كبير الكتاب حقير جداً حتى أن الحمار لا يرضى أن يدخله." علَّقS. Parpola - جامعة هلسنكي- على ذلك بقوله "إن العلم وحياة الترف لا يتماشيان سوية بصورة عامة، وأن هذه الحالة السيئة تبدو صحيحة في الأزمان القديمة كما هي اليوم(30).
ابتكر السومريون مع بدء الكتابة رموزا للأرقام ونظامين للعد أحدهما النظام العشري والآخر النظام الستيني(31). "إن للسومريين فضل كبير علينا في تقسيم اليوم الذي اعتبروا شروق الشمس بداية له، فقسموه إلى أثنى عشر ضعفاً للساعة، أي أربعة وعشرون ساعة، ثم قسموا كل (نصف ساعة) إلى ثلاثين جزءاً…" وقد اقترح الفلكي الاغريقي (كديناس) اعتبار بداية اليوم من منتصف الليل لتحمله خطأ أقل في القياس الذي يسببه الحساب بشروق الشمس. وكان لنظام توزيع الدائرة إلى 360 درجة واليوم إلى 24 ساعة أن نتجت في النهاية منطقة البروج التي وسعَّت مجال علم التنجيم(32). أما الصفر فلم يُعرف إلا في عهد الإحتلال السلجوقي في القرن السادس ق.م. ونضج استعماله على أيدي الرياضيين العرب(33).



الرضيات والفلك


عرف رياضيو وادي الرافدين العمليات الحسابية الأربعة، وتركوا جداول للضرب ومربعات الأعداد ومكعباتها وجداول لوغارتمات بعض الأعداد. وكانت الطرق البابلية جبرية في أساسها، واستطاعوا منذ الحقبة البابلية القديمة حساب أعداد كالجذور التربيعية والتكعيبية وحل المعادلات التربيعية (الدرجة الثانية)(34). كما اتسمت الرياضيات البابلية بسمتين: النظام الستيني، واستخدام نظام القيمة المرتبية، وكان لهما فضل جمّ في حل العمليات الحسابية(35). كذلك تضمنت الوثائق المكتشفة في مدينة اشنونا (تل اسمر) نصاً لنظرية هندسية تشبه (نظرية فيثاغورس)(36).
انطلقت حاجة حضارة وادي الرافدين لدراسة حركة الأجرام السماوية من عاملين مترابطين: أولهما ديني يتعلق بعلم ما وراء الطبيعة، وثانيهما عملي لخدمة الدين، يتمثل بعلم الكرونولوجيا (تقسيم الزمن إلى فترات وتعيين تواريخ الأحداث وفق تسلسلها الزمني). فطبقاً للعقيدة السائدة بِأن الأحداث التي تقع في الأرض هي انعكاس لأِحداث تحققت في السماء، يمكن التعرف على أحوال الآلهة عن طريق دراسة الكواكب والنجوم (علاوة على المظاهر الطبيعية- الكونية الأخرى). وهذه المعرفة توفر إمكانية التنبؤ بالمستقبل الخاص بالأرض من خلال معرفة رغبات الآلهة وتنفيذها، ومن ثم تلطيف عقابها للبشر. "من هنا جاءت روحية الشكوكية المأساوية التي تحددت بها أسس فلسفة أرض وادي الرافدين. ولهذا كان التنجيم هو أساس علم الفلك(37)." وعلى ذلك، اعتبر علم الفلك وسيلة وليست غاية، وفائدته الرئيسة هي أن يستخدم كدليل لأِهداف علم النجوم (التنجيم) وتلبية رغبات الآلهة. وفي العام 1100 ق.م تبنّى الآشوريون هذا العلم وأخذوا التقويم عن البابليين. وكان هذا التقويم القمري- الشمسي يتألف من أثنى عشر شهراً وكل شهر من ثلاثين يوماً. ولأِن هذه الدورة تتألف من 360 يوماً، عليه أضيف شهر كبيس في فترات منتظمة. ومن الناحية العملية أثبت هذا التقويم خلوه من عيوب مشكوك فيها(38). ونجح الفلكيون (الكهنة) تقرير وقت بدء الشهر القمري الجديد وحساب التاريخ المضبوط وإبلاغه للملك الذي كان يقوم بنفسه بإعلان بدء الشهر. وكانت أجهزة القياس التي يستخدمونها بسيطة لا تتجاوز الساعة المائية water clock والساعة الشمسية (المزولة) sundial. "ولم يتقيد الفلكيون بإنتظار الظهور الفعلي للقمر ليحددوا بداية الشهر الجديد، بل أنهم كانوا يحيطون الملك علماً بظهور النجوم والشمس والقمر المتوازية في مواعيد دقيقة تحدد الاعتدالات الفصلية وأوقات الخسوف والكسوف(40)."
كما ترك الفلكيون قوائم بِأسماء النجوم المرتبة في منطقة من مناطق السماء التي كانوا يعرفونها، وميَّزوا بين الكواكب السيارة والنجوم الثابتة، واستطاعوا عن طريق الرصد والحساب تأليف جداول بالنجوم الثابتة مع سجلات للمسافات الفاصلة بينها. وعرفوا منذ وقت مبكر تحديد "طرق" الشمس والكواكب السيارة وقسموها إلى أثنتي عشرة "محطة" قُسمت بدورها إلى ثلاثين درجة (وهذا هو أصل دائرة البرج ADIAC).. "وقد جاءت جداول الآهِلة والأقمار وخسوفاتها المرسومة من قبل (بنوريماني)… في بداية القرن الرابع ق.م صحيحة بشكل لا يُصدَّق. ثم قام (كدنيو)- سيديناس- وهو "أعظم الفلكيين البابليين قاطبة" والذي زاول نشاطاته الفلكية حوالي العام 375 ق.م- بإعطاء الأمد المضبوط للسنة الشمسية بخطأ لا يزيد على أربع دقائق و32.65 ثانية. ولقد كان خطأه في حساب قيمة حركة الشمس من نقطة تقاطع المدارين أقل في الحقيقة من الخطأ الذي ارتكبه الفلكي المحدث (اوبولتزر) العام 1887م(41)."


الطب والتطبيب


كان الطب، كما هو حال بقية مجالات المعرفة- فناً أكثر منه علماً. وارتبط العلاج الطبي أساساً بمعتقدات القوم الدينية. إذ كان الاعتقاد السائد أن المرض ناجم عن خطيئة (إِثم/ذَنبْ) الإنسان وإغضابه للآلهة. وهذه الخطيئة تدفع الآلهة المهانة إلى توجيه ضربتها بشكل مباشر للآثم. من هنا يلاحظ أن شريعة حمورابي وأحجار الحدود والمعاهدات السياسية كافة تطلب من الآلهة إنزال كافة أشكال "الدواهي الخطيرة" و "العلل المميتة" بحق من يقدم على إتلاف أو تحريف الوثيقة. وكان الاعتقاد السائد أن بوسع الآلهة أن تطلق (الأبالسة) لتستحوذ على الشخص الآثم بحيث يهاجم كل ابليس عضواً معيناً من جسده، وبإمكانها جعل الإنسان- رجلاً كان أم إمرأة- يخر صريعاً لنوبة يسلطها ساحر أو ساحرة (السحر الاسود). كما أن الأمراض يمكن أن تُسَلَّطْ عن طريق عين شريرة أو نفس قذر. ولما كانت علة الروح تتطلب التطهير الروحي، فقد كان العلاج الغالب في مثل هذه الأحوال ذا منحى ديني بهدف اكتشاف الذنب الكامن المسؤول عن إثارة غضب الآلهة ومعالجته من جهة، ثم العمل على طرد الشياطين من خلال الطقوس والتعازيم والرقى السحرية. ويجري استرضاء الآلهة بإِقامة الصلوات والأدعية وتقديم القرابين. وكان الممارسون لهذه الطقوس هم الكهنة بطبيعة الحال(42).
وإلى جانب هذا الطب الكهنوتي أو التطهير الروحي، وجِدَ كذلك طب شعبي يتكامل معه وفي خدمته، غرضه معالجة المرض أو تطهير الجسد. وكان يعتمد بشكل رئيس على أنواع متعددة من الأعشاب ومنتجات حيوانية وقليل من مواد معدنية، علاوة على بعض العمليات الجراحية التي مارسها الجراحون البابليون والآشوريون دون أن يسجل الكتبة تفصيلات هذه العمليات الجراحية التي بقيت المعلومات الأثرية عنها ضئيلة. بمعنى أن علاج المريض قام- غالباً إن لم يكن دائما- على مرحلتين: الأولى التطهير الروحي، والثانية التطهير الجسدي.
وعموماً أظهرت النصوص المسمارية وجود أطباء حقيقيين في ميزوبوتاميا، رغم اعتقادهم بالأصل ما فوق الطبيعي لأِكثر الأمراض، وميَّزوا مسبباتها الطبيعية كالتربة والقاذورات والطعام والشراب وحتى العدوى. ووردت نصوص تصف أمراض وعلاج الصرع وحصاة المثانة واليرقان الشديد. وكانت تتم محاولة معرفة ما يشكو منه المريض أولاً بفحص: حرارة جسمه، نبضه، الصداع، السعال، شعوره بالدوار (الدوخة). ثم تقرير العلاج المناسب. وهكذا وجد دائما إلى جانب الطب الكهنوتي (اشيبو) طب عملي (اسو) عقلاني الطابع مفيد(43)، رغم أن الأخير ظلَّ متغيراً تابعاً للطب الكهنوتي وفق معتقدات القوم بأن الأمراض هي عقاب من الآلهة بسبب ارتكاب الخطيئة.
ولقد سبق الحديث أن طب وادي الرافدين- إلى جانب طب وادي النيل- مهَّد للقيام بالإصلاح الابقراطي العظيم للطب. ولكن رغم استمرار هذا الطب قائما أكثر من ألف عام فإنه لم يحرز سوى تقدم بطيء جداً، لأِن أطباء حضارة وادي الرافدين، شأنهم شأن فلكييهم، أسسوا فهمهم على مبادئ ميتافيزيقية منعتهم من البحث عن تفسيرات عقلانية لمنشأ الأمراض.

ايسوس العراق

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 7:00 pm

الأدب


(الملاحم والقصص والاساطير)

خلَّفت حضارة وادي الرافدين إرثاً أدبياً غزيراً يتصف بالأصالة والتنوع. ويعتبر الأكثر قِدماً حتى بالمقارنة مع أدب حضارة وادي النيل(1). إن أقدم النصوص السومرية المعروفة حتى الآن يعود تاريخها إلى 2400 ق.م، وهي أسطورة (انليل)- إله الجو واخته ننخرساك. وحسب كريمر، فالسومريون "كانوا بلا أدنى شك أول من أوجد وطور الأدب المحلمي المؤلف من روايات قصصية بطولية وضعت في صيغ شعرية...(2)"
لم يبدأ تدوين أدب وادي الرافدين إلا بعد مرور حوالي ألف عام على إختراع الكتابة. ذلك أن الأدب القديم كان يُنشد أمام الجمهور، ويُسمع في أحضان الأُمهات قبل ظهور الكتابة. وبعد حوالي العام 2000 ق.م واستقرار الكتابة وإنتشارها، ظهرت الحاجة التعليمية والثقافية إلى الأدب المدون. يقول د. ساكس "إن الأدب القديم كان شيئاً يُقص ولم يكن شيئاً يُقرأ بصمت… فقد كان له وجود حقيقي فقط عندما يُقص (ربما بمصاحبة ممثل) أمام الجمهور… كان ينقل شفاهاً من راوية مقتدر (ربما كان يعمل في البلاط أو المعبد) إلى تلاميذه....(3)"
غطت موضوعات أدب حضارة وادي الرافدين حياة القوم- أفكارهم وممارساتهم: الحياة والموت والخلود (أصل الوجود)، الخير والشر (العدالة الإِلهية) THEODICY، القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية، الحياة الروحية والعاطفية.. إن قراءة متأنية لهذا الأدب الزاخر- الذي ينطلق من قاعدة محورية تتجسَّد في المعتقدات الدينية- والمتميزة بالحيوية والمتعة، تنقل القارئ إلى رحاب تلك الحضارة التي أخذت تشع بنورها في حدود العام 3000 ق.م، وتمنحه خلفية واعية عن الكثير من المعتقدات الواردة في كتبنا الدينية، وتغذيه بنفاذ البصيرة وقوة التمحيص لتمييز الكثير من أفكارنا ومعتقداتنا وممارساتنا الاجتماعية الحالية. يقول الدكتور هاري "ولعلَّ أكثر النشاطات الأدبية التي لها صدى لدى الإنسان المعاصر هو أدب بلاد ما بين النهرين القديمة(4)." ولم يكن هذا الأدب مجرد أساطير وخيالات، بل وليدة معتقدات القوم وأفكارهم ونظرتهم للكون بالعلاقة مع بيئتهم. عليه، فإن فهم معتقدات القوم وأفكارهم الفلسفية تتطلب استيعاباً جيداً لأِدب حضارة وادي الرافدين. وفي الصفحات التالية نماذج موجزة تتضمن القصص والأساطير والملاحم وأدب الرثاء والمناظرة والفكاهة والأمثال(5).

1- أساطير خلق الكون– الإنسان (ملحمة الخليقة البابلية)
اختلفت ملاحم الخليقة بشأن الإِله الخالق إرتباطاً بتطور حضارة القوم والتنقل بين الزراعة المروية والمطرية (الديمية)، علاوة على التطورات السياسية. إن أقدم ملحمة مكتشفة للخليقة هي "أسطورة المعول". سادت في الألف الرابع ق.م، وظهرت بداياتها الأولى في الأقسام الشمالية المعتمدة على الزراعة الديمية (المطرية)، خاصة المناطق المتذبذبة الأمطار. فما دام الهواء هو العنصر الفعال في حركة الأمطار لذلك صار لـ (انليل)- إله الجو دوراً كبيراً في حياة القوم وأصبح في نظرهم هو خالق الكون والبشر. تذكر القصيدة قيام انليل بفصل السماء عن الأرض، ثم خلق الإنسان ووضع في يده المعول للعمل وخدمة الآلهة(6):
فحفر شقاً في الأرض…
وخلق المعول…
ووضع بدايات البشرية في الشق
وعندما بدأ البشر يظهر كالحشيش في الأرض
كان الإِله انليل ينظر مرتاحاً إلى شعبه السومري
تشير هذه الملحمة بوضوح لبداية إنتشار الزراعة. وهي الملحمة الوحيدة التي تقول بظهور الأنسان مثل الحشيش من باطن الأرض، وتعكس مفهوما زراعياً صرفاً لحضارة وادي الرافدين التي قامت في مراحلها الأولى على الزراعة المطرية خلال الفترة 8000-5000 ق.م(7).
كما أن هذه الأسطورة السومرية، حسبما سبقت الإشارة، تميط اللثام عن مسألة أُخرى غاية الأهمية تتعلق بِأصل السومريين (ف3) فهي تشير إلى بداية ممارسة الزراعة (المطرية) التي ظهرت في شمال البلاد. وفي نفس الوقت ينظر (انليل) مرتاحاً إلى شعبه السومري! وهذه إشارة واضحة بِأن السومريين وأهل الكهوف الذين اكتشفوا الزراعة لأِول مرة في تاريخ البشرية ومارسوا الزراعة المطرية، هم أنفسهم أهل البلاد ممن انتشرت قراهم في طول البلاد وعرضها. وهذا التواصل الفكري- التاريخي يقدم دعماً آخر بِأن السومريين هم أبناء أولئك الرواد الذين خرجوا من كهوف الشمال ونقلوا البشرية من عصر جمع القوت إلى عصر إنتاج القوت (الزراعة المطرية)، ثم انتشروا لغاية الجنوب (زراعة الري)، ونقلوا البشرية من عصر ما قبل التاريخ إلى عصر التاريخ (اختراع الكتابة).
وتُجسّد أسطورة "إله الشعير (اشنان) و (النعجة)"- التي من المتوقع ظهورها قبل الانتقال إلى القسم الجنوبي من البلاد- بدايات الحياة الزراعية الصرفة بما في ذلك دجن الحيوان. والطريف فيها أنها لا تخلو من أفكار عصرية عن طبيعة البشر الأوائل وأصل الإنسان (القرد). فبعد ولادة آلهة الانوناكي العظام، حيث لم تُخلق النعجة بعد ولم يُخلق اشنان إله الشعير، كيف كان حال البشر الأوائل؟
البشر الأوائل لم يعرفوا أكل الخبز
ولم يعرفوا ارتداء الملابس بعد
وكانوا يسيرون على أيديهم وأرجلهم
ومن القنوات يشربون الماء...(8).
أخذت أهمية عناصر البيئة الطبيعية وموقعها في حضارة وادي الرافدين بالتغير مع الانتقال من الزراعة المطرية (الشمال) إلى الزراعة المروية (الجنوب)، وبدأت قدسية (انليل)- إله الجو- بالتراجع لصالح (انكي)- إله المياه السطحية والجوفية. من هنا ظهرت "أسطورة الإِله (انكي) والإِلهة (تنماخ)" وهي تنسب خلق الإنسان لـ (انكي). وتُعبِّر عن مجتمع زراعي يقوم على الري الصناعي واعتمدت المقومات المتاحة في بلاد سومر، وتكشف عن غضب صغار الآلهة لتحميلهم مشاق العمل تحت سياط الآلهة الكبار، فجاء خلق الإنسان حلاً لهذه المعضلة "يكون مصيره العمل". وكان الخالق أو الآمر بالخلق هو انكي(9).
بدأت مكانة (انكي) بالتراجع أيضاً بعد منتصف الألف الثالث ق.م وظهور آفة الملوحة والتصحر وهجرة الأرض والمدينة في بلاد سومر (ف1/3، ف5)، حيث لوحظ كيف أن هذا العامل شكل أحد العوامل الرئيسة في فقدان بلاد سومر لسلطتها السياسية لصالح سلطة بابل التي بدأت أهميتها في التعاظم منذ العام 2000 ق.م، وأصبحت في حدود 1800 ق.م مركز السلطة السياسية في بلاد الرافدين. هذه التطورات السياسية دفعت كهنة بابل لإحداث تطوير في قصة الخلق لتتناسب ومكانة (مردوخ)- إله بابل فظهرت ملحمة الخليقة البابلية(10).
تعتبر هذه الملحمة من أبرز القصائد الشعرية في الأدب الديني وواحدة من أكثر الروائع الأدبية في محتواها وقدمها وشهرتها. تُعرف أيضا بقصيدة (اينوما ايلش)- حينما في العُلى- نسبة إلى فاتحتها. تضم أكثر من ألف بيت، وأُصبغت عليها صفة القدسية مثل (الكتاب الديني)، إذ كانت تُتلى أثناء احتفالات رأس السنة في مدينة بابل وعلى مدى حوالي ألفي عام(11).
تذكر الأسطورة أنه في البداية لم يكن هناك سوى العماء CHAOS- المياه الأزلية: (ابسو)- المياه العذبة- مذكر.. و (تيامات)- المياه المالحة- مؤنث.. وبعد امتزاجهما تولد جيل من الآلهة. وعن طريق الزواج ولدت أجيال جديدة من الآلهة اشتهر منهم الثلاثة الذكور الكبار (آنو، انليل، انكي). وبعد أن تكاثر عدد الآلهة وأخذ ضجيجهم يقض مضجع أباهم الأكبر (ابسو)، قرر الأخير تصفيتهم لينعم بالراحة(12). يذهب ابسو يصحبة وزيره "حمو" إلى تيامة شاكياً همه ويخبرها بقراره، لكنه يجد معارضة من تيامة(13):
"ولما سمعت (تيامة) ذلك غضبت وصرخت بزوجها
أدركت في قلبها ما يبيت (ابسو) من شر وخاطبته:
علامَ نُدمر ما أوجدناه بِأنفسنا
حقاً أن صنيعهم يسبب الألم
ولكن لنصبر على ذلك ونتحمله عن طيب خاطر"
استمر (ابسو) في خطته بمعاونة وزيره لتصفية جيل الآلهة الحديثة بعد استبعاد (تيامة) من الخطة. لكن جيل الآلهة الحديثة أدركوا نواياه قبل تنفيذ خطته، فأصابهم الرعب والهلع ولاذوا أخيراً بـ (انكي) المتبحر بالمعرفة والحكمة لحمايتهم. عمد (انكي) إلى قوته السحرية فعمل تعويذة سحرية شلَّت حركة (ابسو) ثم قتله وانتزع منه تاج الألوهية وسجن وزيره (حمو). وهنا اشتد حنق (تيامة) وانتفضت لأِخذ ثأر زوجها. فولّدت جيشا من العفاريت على رأسهم (كنكو) الذي أصبح قائد جيشها وزوجها. وأثناء هذه الفترة الطويلة ولِدَ لـ (انكي) إبنه (مردوخ) الذي سيلعب دوراً حامياً في الأساطير البابلية. اتصف (مردوخ) بالحكمة والثقافة و"كان أعجوبة منذ ولادته... وكان هيكله هائلاً... (14).
وبعد أن أدرك جموع الآلهة الخطر المحدق بهم، وجَبُنَ كبارهم مثل (آنو، انليل، انكي) مواجهة (تيامات) وجيشها المرعب، علاوة على فشل محاولتهم الصلح معها، وافق (مردوخ) على اقتراح الآلهة اضطلاعه بهذه المهمة الخطيرة ومنازلة (تيامات)، ولكنه طلب جزاء ذلك أن يتبوأ السلطة العليا المطلقة على جميع الآلهة. وهذا الأمر اقتضى اجتماع الآلهة وعقد مجلس الشورى (مجلس الانوناكي) لمنحه الصلاحيات المطلوبة. ولما انتظم عقدهم في وليمة عامرة بالطعام والشراب، وذهب عنهم الخوف بتأثير ما احتسوه من خمر جيد، أقاموا منصة لـ (مردوخ) واتفقوا بالاجماع على نقل سلطاتهم وزعاماتهم إليه، وفوضوه تقرير المصائر والأقدار، وصارت "إرادته لا تُرَدْ ولا تتبدل"، وتوجوه ملكاً عليهم وعلى جميع الكون، وهتفوا له قائلين "حقا مردوخ ملك"، وقدموا له الخضوع والولاء والطاعة بصفته ملكهم، وقلَّدوه شارات الملوكية والسلاح الذي لا يُقهر، وحرَّضوه على قتال (تيامة).. وهناك بعض الباحثين الغربيين يرى وجود أوجه شبه بين حالة مردوخ- تيامة وبين ما ورد في التوراة (سفر حبقوق- الإصحاح الثالث(15)."
هيأ مردوخ أسلحته للنزال الرهيب، تتقدمها أسلحته السحرية: العاصفة والبرق والنور الوهاج ومجموعة مخلوقات مخيفة، علاوة على أسلحته التقليدية الضخمة: الشبكة والقوس والسهم. اقترب (مردوخ) من جموع (تيامات) بقيادة (كنكو) فصعقت من جلال الوهيته المرعبة وأسلحته الفتاكة وهربت تلك الجموع، عدا (تيامات) التي ثبتت أمامه. وقبل النزال تبودلت الشتائم بينهما. وعندما تقدمت تيامات لمنازلته، نشر مردوخ شبكته فاصطادها، ولما فتحت فاهها لإبتلاعه ساق في فمها الرياح الشريرة، فمنعها من إطباق شفتيها، وسلَّط عليها الرياح فانتفخ جسمها وعندئذ رشقها بسهم في فمها الفاغر فأصاب قلبها، وقضى عليها، ووقف على جثتها منتصراً. قبض على أتباعها وسجنهم وانتزع من قائد جموعهم (كنكو) لوح الأقدار وختمه بختمه وعلَّقه في صدره. ثم عاد إلى جثة (تيامات) فشق جسمها نصفين متطابقين، صنع السماء من أحدهما والأرض من النصف الآخر. وبعد أن عيَّن للآلهة الكبار (آنو، انليل، انكي) الأجزاء التي يحكمونها من الكون وحدد أماكنهم في السماء قرر تقسيم الآلهة إلى مجموعتين الأولى والأكبر في السماء والآخر في الأرض. وأما الإنسان، فإن (مردوخ) يأمر بخلقه، ولكن الخالق الحقيقي حسب الاختصاص بقي (انكي). ومادة الخلق هنا هي الطين: التراب ودم أحد الآلهة (كنكو) الشرير بعد ذبحه. كما بقي هدف ودوافع خلق الإنسان نفسه، شكوى صغار الآلهة من عناء العمل المضني تحت ضربات سياط الآلهة الكبار، وإيجاد بديل (الإنسان) للعمل وخدمة الآلهة(16).
وعرفاناً بفضل مردوخ وبطولته، عمل آلهة الانوناكي طوال عام واحد في تشييد بيت يليق بمقامه، فأقاموا معبده العظيم (اي- ساقلا) في بابل. وبعد أن تم ذلك اجتمع الآلهة في حفل وليمة عزفت فيها الموسيقى وقدمت الجعة ورتل الآلهة بمديح مردوخ وتمجيده، وتنازلوا له عن أسمائهم وصفاتهم، فصار لـ (مردوخ) خمسون اسماً، وتنتهي القصيدة بترتيل يُرتل تمجيداً لإِله بابل في عيد رأس السنة(17).
رغم صعوبة إعطاء تفسير أُحادي لما تعكسه أحداث الأسطورة من معاني ومضامين، لكنها تكشف عدداً من الأمور التي قد تجد اتفاقاً عاماً: الثأر والعنف والحروب، الحكم المطلق والملكية الإستبدادية وفق المعتقد الديني (التفويض الإِلهي)، خلق الإنسان من الطين: التراب والماء أو دم إِله شرير، غاية خلق الإنسان العبودية للآلهة والطاعة المطلقة لنائب الآلهة (الملك).. وكثرة اسماء الحاكم المطلق في زمننا المعاصر.. وبموجب الأسطورة البابلية تكون المادة الأولى ذات طبيعة ثنائية، إذ كانت مادة وإله في نفس الوقت، أي أن المادة أزلية منذ البدء.. هذا على خلاف الأديان الرئيسة حيث أن وجود الخالق أزلي سبق وجود المادة التي أوجدها(18). لكن معرفتهم الثنائية لطبيعة المادة، رغم أنها تشكل فكراً معاصراً، قامت على فلسفة ميتافيزيقية لم يُكتب لها التحرك والتطور في غياب منهج التفكير العلمي



أساطير خلق أُخرى

وردت أساطير خلق أُخرى قصيرة. ففي "أسطورة أصل الآلهة" تم ترتيب ظهور الآلهة في شكلها البابلي على هيئة زوجين ذكر وأنثى والاتصال الجنسي بينهما بزواج الولد من أُمه وقتل أباه وزواج الأخت من أخيها وقتلها لأِمها(19).
وفي "أسطورة الهبوط" التي تنتمي إلى مجموعة أساطير انليل إله الجو، وترد في صيغ عديدة، تتضمن معاشرته لـ (ننليل)- قبل أن تصبح زوجته- فجاءت نتائج هذه المعاشرة ولادة المطر والفيضان وخصوبة الأرض وإخصاب العائلات البشرية(20). وفي صيغة أُخرى يقوم انليل باغتصابها فيُحكم من قبل مجلس الآلهة بالنفي إلى العالم الأسفل. وتشير إلى إنحدار مركز (انليل) في مرحلة الانتقال من الزراعة المطرية في الشمال إلى الزراعة المروية في الجنوب(21). وفي صيغة ثالثة تتم الخطبة والزواج ويطلق انليل عليها سيدة الهواء(22).
وبعد وصف أرض دلمون- البحرين في "أسطورة انكي وننخرساك": غزيرة المياه، عالية الخصوبة، كثيرة الخيرات، ذات زرع وحقول وبساتين، والتي جعلها انكي أرضاً طاهرة... تتحدث الأسطورة عن حصول جماع بين انكي والإلهة ننخرساك ثم مجامعته لإبنته، ثم حفيدته.. وهكذا في ظل ولادات سريعة. وفي آخر جِماعه بإبنة حفيدته فهي تلد ثمانية أنواع من النباتات والأشجار. وعندما شاهدها (انكي) أراد معرفة ماهيتها، فأمر رسوله (اسيمود)- ذات الوجهين- أن يقطعها ويأكلها، وعندئذ غضبت (ننخرساك) ولعنت (انكي) وأحلَّت به الأمراض. ومن خلال وساطة ناجحة للثعلب تحضر (ننخرساك) لمجمع الآلهة في دلمون وتشفي (انكي) من علله بعد أن غفرت له إساءته "وأخذته وأجلسته على فرجها‍"، فعاد انكي وتبوأ مركزه السامي بين الآلهة(23).
وتتحدث "أسطورة انكي وتنظيم الكون" عن قيام انكي- إله المياه والمعرفة والحكمة- بجولة في أقاليم الأرض المعروفة آنذاك، بدءاً من بلاد سومر، لإسباغ بركاته ونشر الحضارة فيها. وأخذ بعد ذلك بتنظيم أحوال الأرض وأنهارها وبحارها، فملأ نهري دجلة والفرات بالمياه العذبة والاسماك، وأوجد أحراش القصب والآجر والحيوانات. ومن أجل تنظيم المجتمع البشري، نصب إلهاً لكل ناحية من نواحي النشاط الحضاري، فمثلاً خصص للإشراف على الفلاحة والزراعة الإِله (اينمكدو) والخضار والغلال الإِله (اشنان) والماشية والرعي الإِله (دموزي)- تموز.. وهكذا..(24).
وتتطابق " أسطور تمجيد عشتار" مع عصر ما قبل التاريخ والعصور التاريخية المبكرة. تتضمن محاولة إعادة هيبة (آنو)- إله السماء من قبل كهنة (الوركاء)- مركز عبادة (آنو). وتتناول كيف أن (آنو) أشرك ابنته الإِلهة (عشتار) في تاجه بعد فترة حب طويلة لها. واعترافاً بجميلها رغب أن يرفعها إلى درجة المساواة معه، بناء على نصيحة مجمع الآلهة. وأمر أن يكون اسمها بعد الزواج منه (انتو)- صيغة المؤنث لـ (آنو). وبعد أن مُجِّدت (عشتار) وبُجِّلت احتلت مكاناً مهماً في السماء- مقر (آنو)- ثم شُخصت بالكوكب السيار (الزهرة)(25).
وفي "أسطورة نقل النواميس الإلهية إلى الوركاء" قصة تحايل عشتار- انانا لحيازة (النواميس الإِلهية) من انكي- ايا المختص بحيازتها، ونقلها لمدينتها الوركاء- اوروك، والتي تشكل العناصر الأساسية للحضارة والمدنية من بينها: السيادة والألوهية، نظام الحكم والتاج والصولجان، وظيفة الكهانة، الصدق والخداع والتزوير، الفن والموسيقى، العداوة والبغضاء، الصدق والأمانة، الصلاح والعدل، الطوفان، الجماع والبغاء، وطائفة من الحرف والصناعات المختلفة مثل النجارة والحدادة والبناء والحياكة.. ومن ثم نجاحها في مهمتها بعد أن أكثرت له الشراب(26).
وتحدثت "أسطورة ننورتا" عن الكفاح الذي خاضه الإله ننورتا ابن انليل ضد قوى الشر وانتصاره عليها. منح الصخور التي حاربت معه أحسن الأسماء (الرخام، اللازورد، المرمر..) حيث تستعمل في زخرفة القصور والمعابد ومواد للتماثيل والهياكل الخاصة بالآلهة. بينما أعطى الصخور التي حاربت ضده أردأ الأسماء فصارت تستعمل في بناء عتبات الأبواب وتدوسها الأقدام(27)!
وتعود أسطورة "تعويذة الولادة- خلق الإنسان" السومرية الأصل إلى عصر انكي، وتتضمن جوانب من آراء القوم في خلق الإنسان من قبل (مامي)- إلهة الخلق (من أسمائها: ننيتو، نبيتو، ننخرساك). وبطلب من انكي والآلهة الأُخرى تم خلق الإنسان من الطين (التراب) بعد خلطه بدم أحد الآلهة المضحى به لهذا الغرض. وهي تشبه في هذه النقطة ملحمة الخليقة البابلية(28).
وتُعبر أسطورة "تعويذة خاصة بوجع الاسنان" عن عصر الآلهة الكبار. "من بعد أن خلق الإِله انو السماء، السماء خلقت الأرض، وخلقت الأرض الأنهار، وخلقت الأنهار الجداول والقنوات، وخلقت الجداول الأهوار، وخلقت الأهوار الدودة".. ذهبت الدودة للإِله شمش وانكي وقالت "ماذا تعطيني لطعامي؟ وما تعطيني لأِمتصه؟" أجابها انكي "سأعطيك التين الناضج والمشمش"، قالت "وما جدوى التين الناضج والمشمش لي؟ ضعني في الأسنان، واجعل مسكني اللثة، لكي أمتص دم الإنسان، وأقرض اللثة وآكل جذورها". ووفق هذا المعتقد يقوم الكاهن بعمل تعويذة للمريض الشاكي ألماً في أسنانه تتضمن "لأِنكِ قلتِ هكذا يا دودة فليحطمكِ الإِله ايا(29)."



ملاحم البطولة (ملحمة كلكامش)


تعود في أصلها إلى عدة قصص سومرية تتناول ملحمة كلكامش في أجزاء متفرقة يعود الفضل في دمجها إلى الشاعر البابلي الذي شكل منها ملحمة رائعة متكاملة تميزت بشهرتها وانتشارها الواسع في العالم القديم. "... جلجامش أفضل قصيدة ملحمية عِبر العصور حتى مقارنة بـ إلياذة هوميروس. وهي تسبق الإلياذة بِألف وخمسمائة سنة(30)." تربعت القمة بين شوامخ الأدب العالمي. ومع أنها دونت في صيغتها البابلية في حدود 2000 ق.م، إلا أن أحداثها تعود إلى عهد أقدم، لذلك تعتبر أقدم الملاحم البطولية في تاريخ جميع الحضارات. ورغم هذه المسافة الزمنية البعيدة فإنها بقيت حية خالدة تتمتع بالجاذبية لإرتباط أحداثها بقضايا دنيوية لا زالت تشغل بال الإنسان المعاصر وتؤثر في مداركه العقلية والعاطفية، بما في ذلك لغز الحياة والموت والخلود، الحب والكره، الصداقة والوفاء، المخاطرات والمغامرات.. من هنا استحقت ملحمة كلكامش تسمية (اوديسة العراق الخالدة)(31). هذه "القصيدة البطولية التي يستطيع قارئها أن يثق بنفسه في السيطرة على سامعيه." ويقول سبايزر "إن ملحمة جلجامش تتعامل مع أشياء من عالمنا الدنيوي مثل الإنسان والطبيعة، الحب والمغامرة، الصداقة والحرب، وقد أمكن مزجها جميعاً ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيس ألا وهو (حقيقة الموت المطلقة). إن الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره الإنساني المحتوم، عن طريق معرفة سر الخلود من رجل الطوفان، ينتهي بالفشل في نهاية الأمر، ولكن مع ذلك الفشل يأتيه شعور هادئ بالاستسلام. ولأِول مرة في تاريخ العالم تجد تجربة عميقة على مثل هذا المستوى البطولي تعبيراً بأسلوب رفيع. إن مدى الملحمة وقوتها الشعرية العارمة جعتلها تنال إعجاب الناس في كل العصور. ففي العصور القديمة انتشر أثر هذه الملحمة الشعرية إلى لغات ومراكز حضارية عديدة، واليوم تستحوذ على الشعر وعشاقه على حد سواء." يُضاف إلى ذلك أن الملحمة واجهت نهايتها المحزنة ببديل اجتماعي مؤثر. فإِذا كان الخلود مستحيلاً للإنسان لأِن الآلهة استأثرت به، فباستطاعته أن يُخلَّد بِأعماله ومآثره(32). وتجمع هذه الملحمة عدة أساطير: ملوكية كلكامش، صداقته لغريمه انكيدو بعد خلقه ومغامراتهما، ثم موت انكيدو، ورحلة كلكامش بحثاً عن الخلود وقصة الطوفان، وأخيراً موت كلكامش.
اشتهر كلكامش في أدب وادي الرافدين كونه من أبطال الملاحم. وكان شخصية تاريخية واقعية حسب قائمة الملوك السومرية (خامس ملوك السلالة الأُولى لمدينة الوركاء) رغم معرفة القليل عنه. ويُرجح أنه حكم في حدود 2600- 2500 ق.م(33).
كان كلكامش ملك وكاهن مدينة الوركاء. أُمه الإِلهة (ننسون) وأبوه الكاهن الأعلى لإِحدى مقاطعات المدينة (كلاّب). وصفته الملحمة بطلاً ضخماَ شجاعاً وطموحاً، ورمزاً للقوة والإقدام، ورجل المغامرات والمخاطرات. تميّز بخبرته وحكمته ومعرفته بخفايا الأمور وأسفاره البعيدة التي "أحلَّت به الضنى والتعب فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبَّره… وبنى أسوار الوركاء ومعبدها المقدس (اي- انا) وهو عمل لم يُضارعه فيها الملوك… وكان كلكامش على أتم ما يكون من الخَلق وكمال الصورة، فقد حبّاه شمش السماوي بالحسن، وخصَّه الإِله (ادد) بالبطولة… ثلثاه إله وثلثه الباقي من مادة البشر(34)."
ولكن رغم صفاته تلك وحمايته لأِهل مدينته من الإعتداءات الخارجية حتى وصف بـ (الراعي)، فقد عُرف بغطرسته وقسوته وظلمه لأِهل اوروك علاوة على فجوره وفسوقه، فلم "يترك ابناً طليقاً لأِبيه، ولم يدع عذراء طليقة لحبيبها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل(35)." هذه الأفعال أثارت عليه حفيظة واستياء أهل مدينته فشكوه للآلهة. استمع إله السماء آنو لشكواهم وأمر (اورورو)- إلهة الخلق- وقال لها "يا (اورورو) أنتِ التي خلقتِ هذا الرجل بِأمر (انليل) فاخلقي الآن غريماً له يضارعه في قوة العزم وليكونا في صراع دائم حتى تنال (اوروك) السلام والراحة(36)." رضخت (اورورو) لأِمر (آنو). أخذت قبضة من الطين ورمتها في البرية فخلق منها (انكيدو) الصنديد، ونشأ مارداً متوحشاً يجلل الشعر جسمه، لا يعرف العمران، يرعى الكلأ مع الظباء ويرتاد الماء مع وحوش البرية. وهنا تبدأ قصة كلكامش وانكيدو(37).
وفي أحد الأيام يراه صياداً مذعوراً من بعيد وقد قطع انكيدو شباك صيده، ففهم سبب تخريب الفخاخ التي ينصبها وهروب الطرائد من يديه. قصَّ الصياد الحادثة على أبيه الذي نصحه بإخبار كلكامش وأوضح له الطريقة التي ينبغي لـ كلكامش معالجة الأمر. وبعد أن سمع القصة واقتنع بالنصيحة، قال كلكامش للصياد "إنطلق أيها الصياد واصطحب معك بغياً مومساً وحينما يأتي انكيدو إلى مورد الماء لسقي الحيوان دعها تخلع ثيابها وتكشف عن مفاتن جسمها، فإِذا ما رآها انجذب اليها، وعندئذ ستنكره حيواناته التي ربيت معه في البرية(38)."
تصرَّف الصياد وفق الخطة، سار مصطحباً البغي حتى وصلا مورد الماء، ولما جاء انكيدو مع الحيوانات، قال للبغي "هذا هو أيتها البغي فاكشفي عن نهديك ومفاتن جسمك ليتمتع بها... فأسفرت البغي عن صدرها وكشفت عن عورتها وتمتع بمفاتن جسمها…" ولبث انكيدو معها ستة أيام وسبع ليال "وبعد أن قضى حاجته منها وأراد اللحاق بألفه من حيوانات البرية أنكرته وهربت منه، وخذلته رجلاه لما هَمَّ أن يطاردها ويلحق بها". وهكذا زالت القوة الوحشية عن انكيدو ولكنه أصبح "فطناً واسع الحس والفهم(39)."
اضطر انكيدو الرجوع للبغي التي قالت له "أصبحت الآن يا انكيدو عارفاً حكيماً مثل إله، فعلامَ تتجول مع حيوانات البرية؟ تعال أُقدمك إلى (اوروك) ذات الأسوار، إلى بيت آنو عشتار حيث يعيش كلكامش المكتمل القوة والمتسلط على الناس كالثور الوحشي." وافق انكيدو وقال "هلمّي أيتها البغي، خذيني إلى البيت المشوق، مسكن آنو عشتار، إلى حيث يحكم كلكامش وسأتحداه وأُنادي وسط اوروك! أنا الأقوى! أنا الذي سأُبدل المصائر(40)."
وفي هذه الأثناء يحلم كلكامش ويقص حلمه على أُمه فتفسر مغزى الحلم أن غريماً له سيظهر عن قريب وسيكون مماثلاً له في البأس والقوة، لكنه سيصبح رفيق عمره الذي لا يخذله (41). وتأخذ البغي بيد انكيدو "كأنها أُمه" وتقوده إلى اوروك حيث يتعلم أمور التمدن العامة: يستحم ويقص شعره ويطيب جسمه بالزيت ويأكل الخبز ويشرب الخمر. وهكذا هيأته على مدى ستة أيام وسبع ليال. وبمناسبة حصول تجمع في مركز المدينة (الزواج المقدس) يلتقي البطلان ويجري صراع هائل بينهما يشبه مغامرات هرقل الأغريقي (بطل الأساطير الدينية الاغريقية الذي اشتهر بمغامراته الحربية مع الوحوش والآلهة)(42). ورغم رجحان كفة كلكامش في النهاية لكنه هدأ وترك خصمه.. ولما استدار ليمشي كلَّمه انكيدو قائلاً له: رفع انليل رأسك عالياً بين الناس وقدَّر اليك الملكية بين البشر(43).
بعد أن أصبح البطلان صديقين حميمين، عزم كلكامش القيام بحملة إلى (غابات الأرز) لتخليد اسمه والترفيه عن صاحبه الذي يبدو أنه سئم حياة الحضارة وأخذ يحن إلى حياته الأولى يوم كان طليقاً في البوادي. اتفق الصديقان على الرحلة، رغم ما أبداه انكيدو من مخاوف، خاصة وأن الإِله انليل قد وكَّل على الغابة مارداً لحراستها هو العفريت (خمبابا) الذي "زفيره عباب الطوفان وفمه نفاث ألسِنَة اللهب وأنفاسه الموت الزؤام." وكان خمبابا، لأِسباب غير معروفة، عدواً للإِله شمش(44). ويُحتمل أن هذه القصة في دوافعها العملية تعكس صدى المحاولات القديمة جداً للحصول على الأخشاب غير المتوفرة في البلاد(45).
أوعز كلكامش للصناع الحرفيين صنع عدة الحرب اللازمة لهذه الرحلة وجاءت ضخمة بما يناسب قوة البطلين. ثم اتجه نحو مجلس الشيوخ وخاطبهم "سأمد يدي وأقص الأرز فأُسجل لنفسي اسماً خالداً." وأمام إصرار كلكامش وافق المجلس على رحلته بعد تردد وأمدَّه بالنصائح(46). وقبل أن يشرع بالسفر زار مع انكيدو معبد أُمه الإِلهة ننسون ليسألها الشفاعة والبركة والنجاح في مهمته.. استجابت له ننسون ورفعت يديها إلى الإِله شمش وخاطبته بقولها "علامَ أعطيت ولدي كلكامش قلباً مضطرباً لا يستقر؟ والآن حثثته على السفر بعيداً إلى موطن خمبابا. فإلى أن يذهب ويعود ويبلغ غابة الارز ويقتل خمبابا ويمحو من الأرض كلَّ شرٍ تمقته، عسى أن تذكرك عروسك (اي) باليوم الذي ترجعه فيه، ولتوكل به حراس الليل والكواكب وأباك سين حين تحتجب أنت في المساء....(47)" ثم دعت انكيدو بحضور الكاهنات والبغايا والمتبتلات وأوصته قائلة "يا انكيدو القوي الذي ليس من رحمي قد اتخذتك منذ الآن ولداً… ها أنا أئتمنك على ولدي فارجعه إليَّ سالماً(48)." وبعد سفر شاق وطويل بلغا غابة الأرز ليلاً ومكثا خارجها(49). وفي الصباح دخل البطلان الأرض المحرَّمة (غابة الأرز) وشرع كلكامش بقطع أشجار الأرز. سمع العفريت خمبابا فهاج وهجم عليهما، وحلَّ الرعب بالبطلين، وكاد أن يفتك بهما لولا تضرعهما للإِله شمش واستجابة الإِله لدعائهما بتسليطه الرياح العاتية على خمبابا فسببت له الشلل التام وتمكنا من قتله(50).
عاد البطلان إلى اوروك وشاركا باحتفالات النصر التي أُقيمت لهما، وكان كلكامش في أبهى ملابسه وحلله والتاج على رأسه، فلما وقعت عينا عشتار عليه هامت به وخاطبته بقولها "تعال يا كلكامش وكن عريسي المختار، وأمنحني ثمرتك أتمتع بها... سأعد لك مركبات من حجر اللازورد والذهب... وستربط لجرهما شياطين الصاعقة بدلاً من البغال. وفي بيتنا ستجد شذى الأرز يعبق فيه إذا ما دخلته. وستُقَبل قدميك العتبة والدكة. سينحني لك الملوك والحكام وسيقدمون لك الأتاوة من نتاج السهل والجبل وستلد عنزاتك ثلاثاً وتلد نعاجك التوائم…" رفض كلكامش عرض عشتار، بل وعدَّ عليها مثالبها وعيوبها وأهانها وذكَّرها بغدرها لعشاقها السابقين وفي مقدمتهم (دموزي)- تموز الذي أنزلته إلى العالم الأسفل (ف16/5)(51).
غضبت عشتار وذهبت شاكية لسماء أبيها آنو، وبناء على إصرارها، خلق لها ثوراً سماوياً هائلاً وسلَّمه إليها فانزلته إلى اوروك وأخذ يفتك بِأهلها. وعند ذاك انبرى البطلان لمصارعته. وهنا تصف الملحمة وضعاً شبيهاً بمصارعة الثيران في إسبانيا(52). نجحا في قتل الثور بعد صراع عنيف وطويل. وفي هذه الأثناء كانت عشتار تراقب المنظر من معبدها وتلعن حاكم اوروك الذي قذفها بفخذ الثور. فراحت ومعها بغايا المعبد تندب موت الثور(53).
كان هذا السلوك أكبر من أن تتركه الآلهة يمر دون عقاب. فرأى انكيدو حلماً- وهو يعادل الحقيقة في حضارة وادي الرافدين(54). ومضمونه أن الآلهة الثلاثة الكبار (انو، انليل، انكي) ومعهم شمش اجتمعوا وتقرر في هذا الاجتماع القضاء على أحد البطلين، رغم اعتراض شمش:

لأِنهما قتلا الثور السماوي وقتلا خمبابا
فينبغي أن يموت ذلك الذي اقتطع أشجار الارز
ولكن انليل أجاب: انكيدو هو الذي سيموت
وكلكامش لن يموت(55).
حلَّ بـ انكيدو مرض الموت، وأدرك قرب نهايته، ولازم الفراش وأخذت تمر عليه ذكريات الأيام الخوالي عندما كان سعيداً يتجول مع حيوانات البرية، فوجَّه لعناته للبغي داعياً عليها الإِله شمش. ولما سمع الإِله كلامه خاطبه من السماء موبخاً إياه قائلاً علامَ تُلعن البغي يا انكيدو؟ تلك التي علَّمتك كيف تُؤكَل الخبز اللائق بالألوهية، وأسقتك خمراً يليق بالملوكية، وأعطتك كلكامش الوسيم خِلاًّ وصاحباً. ولما سمع انكيدو كلام شمش بدَّل لعناته إلى بركات(56). ولكن هيهات(57).
اشتد مرض انكيدو ورأى قبل موته حلماً آخر تكشَّف له فيه عالم الأموات، فقصَّ حلمه على كلكامش وكيف ظهر أمامه مخلوق مخيف مثل طير الصاعقة (زو) عرّاه من ملابسه وأخذ بخناقه حتى خمدت أنفاسه، ثم بدَّل هيئته وصارت يداه مثل جناحي الطائر مكسوتين بالريش، وقاده إلى دار الظلام- مسكن (ايراكلا)- البيت الذي حُرِّم ساكنوه من النور، حيث التراب والطين قوتهم وهم مكسوون بِأجنحة من الريش(58). وشاهد في هذا العالم الملوك وقد نُزِعَتْ تيجانهم وكُدِّسَتْ على الأرض(59). وأخيراً مات انكيدو فحزن كلكامش على صديقه وبكاه ستة أيام وسبع ليال قبل أن يواري جثمانه التراب "حتى نزلت دودة من أنفه (انكيدو)(60)." وبعد أن وسده اللحد هام كلكامش على وجهه في البراري محاولاً الهروب من المصير الذي حلَّ بصاحبه، وقام برحلة بعيدة وشاقة إلى (اوتو- نبشتم) بطل قصة الطوفان (في صيغتها البابلية) ليسأله عن سر الحياة وكيف استطاع نيل الخلود ودخول مجمع الآلهة(61).
صار شبح الموت يلاحق كلكامش ويفزعه بعد موت انكيدو. هل سيختفي مثلما اختفى صاحبه؟ أم سيكون بوسعه تجاوز هذا المصير المرعب!؟
"خائفاً من الموت أجوب السهوب
وقد أقضت مصيبة أخي مضجعي
كيف أستطيع السكوت وكيف أبقى ساكتاً
صديقي الذي أُحب عاد إلى الطين
هل يتوجب، عليَّ أنا ايضاً، أن أرقد مثله
كي لا أستيقظ أبد الآبدين(62)؟
أخذ كلكامش طريقه إلى (اوتو- نبشتم)، سائراً في البراري يصطاد الحيوانات لتوفير غذائه ولباسه. وبعد سفر طويل صعب محفوف بالمخاطر والأهوال لِما واجهه من مخلوقات وأشجار وظروف غريبة مذهلة ومرعبة، بلغ ساحل البحر، فوجد هناك صاحبة الحانة (سدوري) التي أوصدت أبوابها حالما لمحته من بعيد بسبب هيأته الغريبة. وبعد أن عرَّفها بشخصيته، حاورته قائلة "إن كنت حقاً كلكامش… فَلِمَ ذبلت وجنتاك ولاحَ الغمُّ على وجهك واستبدَّ بك الحزن وتبدَّلت هيئتك". وبعد أن أخبرها بموت صاحبه وحزنه عليه وفزعه من الموت، سألها بقوله "فيا صاحبة الحانة أيكون في وسعي أن لا أرى الموت الذي أرهبه(63)؟"وهنا تُقدم سيدوري له نصيحة دنيوية بالكف عن الحزن والتجوال، محببة إليه الإستمتاع بملذات الحياة:
إلى أين تسعى يا كلكامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة البشر
قدرت الموت على البشر
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا كلكامش فليكن كرشك مملوءً على الدوام
وكن فرحاً ليل نهار
وأقم الأفراح في كل يوم من أيام حياتك
وأرقص وألعب نهار مساء
وأجعل ثيابك نظيفة زاهية
وأغسل رأسك واستحم بالماء
ودلل الطفل الذي يمسك بيدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية(64).
كما أخبرته تعذر الوصول إلى اوتو- نبشتم لأِن مياه بحر الموت تحول دونه. لكنها أرشدته إلى ملاح رجل الطوفان (اور- شنابي) الذي ساعده على عبور بحر الموت بقارب ركباه معاً فوصلا حيث يقيم بطل الطوفان(65). وبعد أن علم رجل الطوفان بسبب مجيء كلكامش أخبره بحتمية الموت وعبث ما يسعى إليه الإنسان من خلود، وقال اوتو- نبشتم:
"إن الموت قاسٍ لا يرحم
متى بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد؟
وهل ختمنا عقداً يدوم إلى الأبد؟
وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالماء على الدوام
والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس حتى يحل أجلها
لم يكن دوام وخلود منذ القدم(66).
ويا ما أعظم الشبه بين النائم والميت ألا تبدو عليهما هيئة الموت؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يميز بين العبد والسيد إذا وافاهما الأجل!
إن آلهة الانوناكي تجتمع مسبقاً ... تقدر المصائر.
لقد قسموا الحياة والموت، ولكن الموت لم يكشفوا عن يومه(67)."
سأل كلكامش رجل الطوفان (اوتو- نبشتم) كيف استطاع الحصول على الخلود، رغم أنه بشر مثله، بل وأضعف منه. وتشكل إجابة اوتو- نبشتم قصة الطوفان. ومن المفيد التعريف بها أولاً..
(الطوفان) قصة حية تتكامل مع ملحمة كلكامش. ورد خبره في قائمة الملوك السومرية. تضمنت أن الطوفان جرف البلاد بعد حكم مدينة (شروباك)- تل فارة على بعد 140 ميل جنوب شرق الديوانية. واعتبر هذا الحدث حدّاً فاصلاً بين عهدين متميزين في تاريخ وادي الرافدين: ما قبل الطوفان وما بعده. كما "أن ما يذهل القارئ الصورة الحية لشخصيات الآلهة التي تضفي عليها صفات الإنسان البدائي والصراحة في وصف هيجانها وغضبها...(68)" ومن الناحية التاريخية تشكل القصة الأكثر قِدَماً، إذ استقرت فكرة الطوفان في وجدان العالم القديم. والمعتقد أنها ترجع في أصولها إلى الفيضانات العارمة للنهرين الكبيرين (دجلة والفرات). وذهب الباحث الأثري المعروف وولي الذي نقَّب في اور إلى احتمال وقوع هذا الطوفان في حدود 4000 ق.م (69). كما واستنتج العالم الفرنسي والخبير الجيولوجي ج. دي مورغان J.DE MORGAN الذي ترأس بعثة التنقيب الفرنسية في (سوس)- بلاد عيلام- إيران.. أن قصص الطوفان تُخلِّد ذكرى فيضان حدث بدرجة من الجسامة لا يمكن نسيانها وذلك في آخر عصر جليدي يرجع تاريخه إلى 8000 سنة، أي 5000 ق.م(70).
أما آثار هذه القطعة الأدبية فيكاد ينعقد الإجماع بين الباحثين على أن خبر الطوفان الوارد في الكتب المقدسة، بدءاً بالتوراة، هو نفسه الوارد في مآثر وأدب وادي الرافدين(71). يذكر جورج رو "تتماثل قصة الطوفان إلى حد يبعث على الدهشة مع تلك التي ترد في الكتاب المقدس (سفر التكوين 50،11- 80،22...)" وهذا يدلل على وجود "احتمال كبير أن العبرانيين استعاروا هذه الأسطورة، التي كانت تشكل تراثاً ثابتاً لدى سكان وادي الرافدين، من العراق فضمنوها في كتابهم المقدس…(72)"
وجِدَتْ قصة الطوفان في ثلاث روايات رئيسة تتشابه في خطوطها العامة والعديد من تفاصيلها. بدأت في أصلها مأثرة أدبية سومرية ثم ضُمَّت إليها أو عُدِّلت أو طورت وأُخرجت بصيغة بابلية، كما هو حاصل في أدب حضارة وادي الرافدين بعامة. وأُولى تلك الروايات بطلها (زيوسيدرا) الذي أنقذ البشرية من طوفان شمل الأرض كلها حسب مفهوم القوم. والثانية بطلها اوتو- نبشتم، محل العرض، والثالثة وأكثرها تفصيلا بطلها (اتراحاسيس) الذي يقوم بدور مشابه في إنقاذ البشرية.
كانت عقوبة الطوفان في رواية اتراحاسيس آخر سلاح تلجأ إليه الآلهة للحد من تكاثر البشرية التي أخذت ضوضائهم وصخبهم تقض مضجع الآلهة وتحرمها من الراحة والهدوء (وهي نفس المشكلة التي دفعت الآلهة القديمة في محاولتها تصفية الآلهة الحديثة- قصة الخليقة البابلية). ويظهر أن انليل- إله الجو/ الرياح، كان المحرض على قيام الآلهة بمجموعة خطوات متلاحقة الغرض منها الفتك بالبشرية وإهلاكهم. ففي المرة الأولى أقنع انليل الآلهة إنزال الأمراض والاوبئة وفوضت (نمتار)- الإِله الموكول بالأمراض والأوبئة- تنفيذ خطتها. فانتشر الوباء في البلاد "وأخذ يلتهم الناس التهاماً." وعندئذ استنجد اتراحاسيس بـ انكي/ ايا لتخليص الناس من هذا الهم. جاءت توصية انكي بناء معبد للإِله نمتار وتقديم الهدايا والنذور له "وعندئذ سوف يرفع نمتار يده عنهم." وبمرور فترة زمنية أُخرى وتكاثر أعداد الناس من جديد وازدياد صخبهم وضجيجهم، قرر انليل أن يعاقبهم بالجفاف والقحط والمجاعة، وهكذا أصدر أوامره للآلهة: ادد لحبس المطر، انكي لمنع المياه الجارية، نيسابا- إلهة الحنطة "أن تمنع فيض ثديها". حلَّت المجاعة بين الناس لمدة ست سنوات متوالية (وهنا فكرة مشابهة للحلم الذي رآه يوسف في مصر- قصة يوسف). فلم ينبت الزرع، وسادت المجاعة وفتكت الأمراض بالناس، وأصبحت الأجسام ضامرة، وتوقفت الولادات، وأصاب الناس الجرب، وتشوهت ملامحهم "اتخذوا من البنت عشاء لهم. واتخذوا من الولد غداء لهم.. لكنهم لم يشبعوا. حتى التهم كل جار جاره. وكان الناس أحياء ولكن على حافة الموت. (73)" يبُادر انكي مرة أُخرى بالإشفاق على الناس وإنهاء مصيبتهم فيسمح بتدفق المياه من العمق. وبهذا التصرف عرض نفسه لغضب انليل الذي صمَّم هذه المرة أن تؤدي جميع الآلهة القسم لإرسال الطوفان وتدمير الأرض ومن عليها.
شروباك مدينة اوتو- نبشتم إبن ملك المدينة(74)، التي كانت مقراً لإِقامة الآلهة الذين اجتمعوا بحضور الثلاثة الكبار (انو، انليل، انكي). وبتحريض من انليل صدر قرارهم لإِفناء البشر بتسليط الطوفان عليهم. لكن انكي بادر منذ البداية الوقوف إلى جانب البشر، ونقل قرار الآلهة بشكل غير مباشر لـ اوتو- نبشتم "يا كوخ القصب! يا كوخ القصب! أسمع يا كوخ وأفهم يا حائط. يا رجل شروباك، يا ابن اوبار- توتو، قوّض بيتك وأبني لك فلكاً. تخلَّ عن مالك وأطلب النجاة. أنبذ الملك وانجَ بحياتك، وأحمل في السفينة بذرة كل ذي حياة. والسفينة التي تبني أضبط قياسها. ليكن عرضها مساوياً لطولها، وأختمها جاعلاً إياها مثل مياه ألـ ابسو(75)." ولما سمع رجل شروباك (اوتو- نبشتم) تصدَّع للأمر، وفهم قرب حدوث الفيضان وكيف يتصرف. صنع السفينة بمساعدة أهل المدينة في سبعة أيام وجهَّزها بالمؤن والمتاع، وأدخل فيها من كل حي بذرة، بما في ذلك الحيوانات، علاوة على أهل بيته وذوي قرباه(76).
كما عيَّن الإِله شمش له موعداً بقوله "حينما ينزل الموكل بالعواصف أمطار الموت والهلاك في المساء فادخل السفينة وأغلق بابها." ولما حان الوقت المحدد سقط المطر المهلك "فولجتُ في السفينة واغلقت بابي…" وفي هذه الأثناء أخذ كل من آلهة السماء والأرض دوره في إطلاق الفيضان ليصل أقصى حالاته من رعود مزمجرة تبلغ عنان السماء وزوابع وأمطار غزيرة، علاوة على إطلاق مياه العمق. فدمرت المساكن والأبنية والسدود، وساد الظلام الداكن "وصار الأخ لا يبصر أخاه، والناس لا يُميَّزون من السماء".. حتى الآلهة ارتعدوا من شدة الهول فأخذوا يتراجعون إلى خلف لغاية بلوغهم سماء انو "لقد استكان الآلهة وربضوا كالكلاب خارج الجدار(77)."
استمر الطوفان ستة أيام وسبع ليال، وفي اليوم السابع هدأت الأوضاع، نظر اوتو- نبشتم من فتحة صغيرة في سفينته إلى الجو فرأى السكون مطبِقاً "ورأيت البشر وقد استحالوا جميعاً إلى طين… فسجدت وبكيت وانهمر الدمع على وجهي...(78)"
استقرت السفينة على جبل فمسكها الجبل ولم يدعها تجري. ويباشر رجل الطوفان في معرفة مدى إمكانية الخروج من السفينة والعودة للأرض، فأخرج حمامة وأطلقها فما لبثت أن عادت لأِنها لم تجد محطّاً لها، وحصل للسنونو نفس الشيء في المحاولة الثانية، وفي المرة الثالثة أطلق الغراب فطار ولم يعد بعد أن وجد مكاناً يحط فيه(79).
وحال تأكد رجل الفيضان إمكان العودة للأرض، أخرج ما في السفينة "وقرَّبتُ القرابين وسكبتُ الماء المقدس على قمة الجبل...وكدَّستُ أسفلها القصب والآس والأُرز فشمَّ الآلهة شذاها، وتجمعوا حولها كأنَّهم الذباب(80)." ولما وصل انليل قال غاضباً للآلهة "عجباً كيف نجتْ نفس واحدة وكان المقدر أن لا ينجو بشر من الهلاك؟" أجابه (ننورتا) بقوله "من ذا الذي يستطيع أن يقوم بهذا الأمر غير ايا…" وهنا قال ايا مخاطباً انليل "أيها البطل‍ أنت أحكم الآلهة، فكيف لم تبصر فأحدثت الطوفان؟ حمِّلْ صاحب الخطيئة وزر خطيئته والمعتدي إثم اعتدائه، ولكن إرحم في العقاب لئلاّ يمعن في الشر… أما أنا فلم أفشِ سر الآلهة ولكن جعلت اوتو- نبشتم يرى رؤيا فأدرك سر الآلهة، والآن تدبر أمره وقرر مصيره(81)." هدأ انليل ولانَ وخفًّت سورة غضبه، ثم دخل السفينة وجعل رجل الطوفان وزوجته يسجدان أمامه ولمس ناصيتهما وباركهما قائلاً "لم يكن اوتا نبشتم قبل الآن سوى أحد البشر، ولكنه منذ الآن هو وزوجته مثلنا نحن الآلهة، وسيعيش اوتانبشم بعيداً عند فم الأنهار."
وهنا يوجه اوتانبشتم كلامه إلى كلكامش: من سيجمع الآلهة من أجلك لتنال الحياة الخالدة؟ تعال أمتحنك "لا تنم ستة أيام وسبع ليال." لكن كلكامش أخذته سنة النوم حال جلوسه، فالتفت بطل الطوفان لزوجته قائلا "انظري وتأمَّلي هذا الإنسان القوي الذي ينشد الحياة قد غلبه النوم." فاقترحت عليه زوجته إيقاظ كلكامش ليعود أدراجه من حيث أتى، لكن اوتا- نبشتم حذَّرها قائلاً "لما كان الخداع سمة البشرية فإنه سيخدعك. فأخبزي له أرغفة من الخبز وضعيها عند رأسه، والأيام التي ينام فيها أشريها على الجدار." فعلت ما أمرها. ولما كان الرغيف السابع لا يزال على الجمر لمس اوتا- نبشتم كلكامش فاستيقظ وقال له "لم تكد تأخذني سنة من النوم حتى لمستني فايقظتني." أجابه اوتا- نبشتم "يا كلكامش عدْ أرغفتك ينبئك المؤشر على الحائط عدد الأيام التي نمتها."
عندئذ يئس كلكامش.. وأمر رجل الطوفان ملاحه أخذ كلكامش ليغتسل ويبدل ثيابه ويعود به إلى مدينته اوروك. وقبل أن يهمّا بركوب سفينة العودة، تشفَّعت له زوجة بطل الطوفان عند زوجها بِأن لا يدعه يعود خائباً لبلاده. فكشف له اوتا- نبشتم سر نبات شوكي عجيب ينبت في أعماق البحر له خاصية سحرية في تجديد الشباب. نجح كلكامش في العثور على ذلك النبات وفرح وقال لرفيقه الملاح أنه سيحمله معه إلى اوروك ويشرك الناس معه ليأكلوه، وسيكون اسمه (يعود الشيخ إلى صباه كالشباب). أما هو فسيأكل منه في أواخر ايامه حتى يعود إلى شبابه. ولكن أثناء توقفهما في الطريق تسرق الحية منه هذا النبات وتأكله، فتنزع جلدها حالاً وأصبحت تجدد شبابها كل عام(82). حزن كلكامش بعد أن ضاعت عليه الفرصة الأخيرة لحصوله على الخلود. لكن الملاح يفتح عين كلكامش على طريق آخر لخلود الأنسان من خلال ما يتركه خلفه من عمل طيب ينفع الناس/ المجتمع.
وفي خاتمة هذه الملحمة ترد قصة "موت كلكامش" وهي قصة سومرية الأصل يعود تدوينها للعصر البابلي القديم (الألف الثاني ق.م)، ورغم قلة ما تبقى من النص الأصلي فهي تلقي ضوءاً ساطعاً على جانب مهم من معتقدات القوم عن عالم الأموات.
تتلخص القصة في أن كلكامش أدرك الحقيقة ورضخ لحتمية الموت المقدرة على الإنسان. وهدأت نفسه بما منحه له الإِله انليل من الملوكية ورفعة الشأن والبطولة. وبعد موته تصطحبه أسرته وحاشيته: زوجته ومحظياته وأولاده وخدمه وأتباعه الذين ذهبوا معه إلى عالم الأموات، ومعه أيضاً الهدايا التي قدمها كلكامش إلى آلهة العالم الأسفل وفي مقدمتهم ملكة هذا العالم ايريشكيكال. وهذه القصيدة تكشف مسألة جوهرية هي أن الأتباع الذين رافقوا كلكامش من أُسرته وحاشيته دُفنوا أحياء على غرار ما كان يمارس في حضارة وادي الرافدين في إحدى الفترات المبكرة من عصر فجر السلالات بدفن حاشية الملك معه كما في مقبرة اور الملكية(83).

ايسوس العراق

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 7:03 pm

المعتقدات والخرافات- الأفكار والفلسفات

1- علاقة الإنسان بالإِله

تشكل علاقة الفرد بالإِله مجالاً موضوعياً لبحث المعتقدات الدينية لوادي الرافدين والتي تقوم على أن الآلهة خلقت الكون- البشر، فهي خالق كل شيء، وموجه كل شيء، ومنفذ كل شيء، وموحٍ بكل شيء قبل حدوثه. عليه اعتبرت سلطات الآلهة غير محدودة على الإنسان. وينضوي تحت هذه السلطة الفلاح والملك على السواء. من هنا تطلع القوم إلى آلهتهم تطلع العبد لسيده: بخوف ومسكنة، وبرهبة وحب وإعجاب أيضاً.(1) ويمكن ملاحظة الموروث التاريخي للنصوص المسمارية الذي يؤكد هذا الاعتقاد في كافة مجالاته. إن الوثائق السومرية- الآشورية- البابلية، بعامة، تميزت بطابعها الديني. فالنصوص الطبية كانت تنظر للأمراض باعتبارها عقابا إلهيا نتيجة الذنوب التي اقترفها المريض، لذلك فليس هناك دواء لا يتضمن استخدام الصلاة والطقوس الدينية. كذلك فيما يخص النصوص الفلكية بحكم اعتقاد القوم أن النجوم تمارس نفوذاً حقيقياً على الإنسان. وتحمل النصوص التجارية قدراً واضحاً من الصبغة الدينية، فالعقود تبدأ فاتحتها باسم الآلهة وتختم في نهايتها بالقسم باسم الآلهة، كما أن قرارات القضاء ترتبط بالآلهة وتبتهل إليها. ويتضح الطابع الديني أيضاً في الأدب بمجالاته المتنوعة والتي تنسب كل حدث إلى إرادة الآلهة. فالإِله هو الذي أوحى للملك إعلان الحرب وتحقيق النصر، وأن الملك بنى المعبد بناء على إرادة الآلهة.. يقول آشور بانيبال- الملك الآشوري "لقد قطعت أوصال أعدائي وألقيت بهم إلى الوحوش الكاسرة لتأكلهم. وحين انتهيت من ذلك، انشرح قلب الآلهة العظام، آلهتي(2)."
ولأِن الآلهة خلقت الإنسان لخدمتها وطاعتها، عليه أصبح من الخصال الحميدة والعظيمة للقوم بدءاً بالملك ولغاية عامة الناس إطاعة إرادة الآلهة. وبينما كان الاحتفال بالأعياد المتنوعة وأداء الطقوس الدينية من اختصاص الكهنة- المعبد، فإِن إرسال النذور والقرابين للمعابد وحضور الاحتفالات الرئيسة والتقيد بالتعاليم العديدة والابتعاد عن المحرمات الكثيرة من واجب كل إنسان، الذي وجب عليه أن يكون خادماً مطيعاً لتعاليم الآلهة حتى يتجنب غضبها وعقابها وانتقامها منه ومن عائلته.. غير أن من الخطأ الاعتقاد أن دين وادي الرافدين كان مجرد دين رسمي أو مجرد تعاليم تقوم على الخوف والرهبة، بل كان كذلك دين عقيدة وقناعة ورغبة. فعندما تُقام الصلوات وتنشد التراتيل في المعابد، كانت تتألق المشاعر المرهفة وتنفجر العواطف الصادقة نحو الآلهة. "لقد وضع سكان ما بين النهرين كل ثقتهم بِآلهتهم واعتمدوا عليها كما يعتمد الأولاد على آبائهم، ويحدثونها كأنها الآباء والأمهات لهم التي من شأنها أن تستاء فتبطش والتي يمكن أيضاً استرضاؤها فتغفر لهم المعاصي والذنوب. لقد "عاش السومريون وورثتهم في الديانة كما يعيش السمك في الماء". كانت تعيش في داخلهم, تزودهم بالأوكسجين الروحي والفكري(3).
وإذا كانت النذور والقرابين والالتزام بالتعاليم والطقوس الدينية واجبة على كل فرد، لكنها لم تكن كافية لنيل عطف وبركات الآلهة، لأِنها تتطلب كذلك سلوكاً اجتماعياً قويماً: أب طيب، ابن بار، مواطن صالح يدعو للمعروف وينهي عن المنكر. وفي نص سومري زاخر بالتعاليم الأخلاقية يقول: "لا تكذب وقل قولا طيباً، لا تتكلم بالشر، وقل الخير، لا تلفظ كلام قلبك حتى لو كنت وحيداً، وإذا تكلَّمت بعجلة فستعيد ما قلته، وحتى تسكت يجب أن تمسك بِأعصابك(4)." وهي مواصفات تُعبِّر عن القيم الاجتماعية- الأخلاقية السائدة حتى الوقت الحاضر في المجتمع البشري المعاصر، بعامة، وفي المجتمعات الأبوية بخاصة.. وتوصي واحدة من نصائح الحكمة البابلية بقولها: "اعبد كل يوم آلهتك، واظهر العطف للضعفاء، قم بالأعمال الصالحة، وقدم العون في كل أيامك، لا تشهر بالآخرين وحدث بالحسنات، لا تقل أشياء خبيثة، وقل للناس قولاً جميلاً." ويؤكد Jacobsen أن الحياة المثالية للفرد تميزت بـ: الإذعان والطاعة.. وذلك في سلسلة تراتيبية من السلطة: الأُخت الكبرى، الأخ الأكبر، الوالدين، مراقب العمل، القاضي، الملك، الإله الشخصي على طريق الآلهة العظام وإله السماء. وهذه المواصفات كانت مطلوبة للشخص الصالح لينال رضا مجتمعه وآلهته(5).
مقابل طاعة الفرد وإيمانه الصادق وسلوكه القويم، تُقدم الآلهة له الحماية ساعة الخطر، والعون عند الطوارئ، والمساعدة عند الحاجة، وتهبه الصحة الموفورة والمركز الاجتماعي المشرف والثروة والأبناء الكثيرون والعمر الطويل.. إلا أن معادلة (طاعة الآلهة = حياة سعيدة) لم تكن القاعدة ولم تكن شائعة عملياً.. فهناك حالات عديدة تمت فيها معاقبة أتقياء على نحو غير مفهوم(6). من هنا ثار سؤال وجيه: كيف يمكن أن يحدث كل هذا والآلهة "الحكيمة" تُسيِّر العالم؟ وكيف يمكن أن يسود الشر على الخير في حياة بعض الأتقياء؟.. وكان جواب الكهنة أن الآلهة نفسها لم تخلُ من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش خلال المراحل الأولى من خلق الكون (ملحمة الخليقة). ورغم أن القوم لم ينسبوا لآلهتهم القداسة المطلقة، واعتقدوا بإمكانية أرتكابها للأخطاء، فهذا لم يمنعهم من التوجه نحوها باعتبارها حراساً للعدل(7).
ومن هنا أيضاً، تصوروا أن الكون تسيره منذ البدء نواميس إِلهية لا تتمثل في عنصر الخير حسب، بل كذلك بعنصر الشر. فهما من مواصفات الإِله والإنسان (المخلوق من دم إِله شرير) معاً. وإذا قبل المرء هذا التعليل عندئذ له أن يسأل سؤالاً آخر: لماذا لا يكون الشر من نصيب الأشرار والخير من نصيب الأخيار؟.. كيف يمكن أن يصيب البؤس والحرمان تقياً ورعاً في حين يرفل الآبق والظالم بالغنى والعيش الرغيد؟. ولكن من ذا الذي يعلم كنه الآلهة؟ فحسب تعبير الفيلسوف البابلي:"إن ما يبدو للمرء ممتازاً هو إساءة للإِله، وما يبدو خسيساً في قلب المرء هو ممتاز عند ربه(8)."
ورغم أن الإجابة النهائية للكهنة هي أن التمسك بالتقوى هو طريق النجاح والسؤدد والصحة والسعادة، وأن الخير سينتصر في النهاية على الشر، وأن على المتعبد المبتلي في حياته أن يصبر ولا ييأس من رحمة الآلهة وعطفها. يبقى الشك والحيرة واليأس وليدة هذه العقيدة. ففي قصيدة سومرية بعنوان (رجل وربه)، وهي تسبق التوراة بِألف عام، نشره (كريمر) في كتابه- التاريخ يبدأ من سومر، يسأل الرجل المعذب إِلهه بجزع:
"يا إِلهي النهار يسطع بنوره على الأرض
أما أنا فيومي مظلم
الدموع والحزن والضيق واليأس تسكن أعماقي
والمصير السيئ يمسك بيدي وينتزع أنفاسي
والحمّى اللعينة منتصر على جسدي
يا إِلهي أيها الرب الذي خلقني، أنقذ وجهي
إلى متى تهملني وتتركني دون حماية(9)."
وفي قصيدة (الصالح المعذب) يصرخ (أيوب البابلي) معلناً الحيرة والشك بقوله:
"من ذا الذي يعلم بإِرادة الآلهة في السماء؟
ومن ذا الذي يدرك خطط آلهة العالم الأسفل؟
أين تعلَّم الفانون طريق الرب؟
هذا الذي كان حياً البارحة، اصبح اليوم ميتاً.
للحظة يكون الانسان مكتئباً وفجأة ينقلب منشرحاً.
مرة يُغني بنشوة،
وفي لحظة تالية كأنهم ندابون محترفون..."
أنا حائر إزاء كل هذا إذ لا أفهم جدواه(10)."

وَلَّدت هذه المعتقدات وما ارتبط بها من هاجس الموت والبؤس والحرمان والمرض والحزن وهموم الحياة، بعامة، عناصر الكآبة والقلق والخوف والتشاؤم وعدم الاطمئنان وغياب الاستقرار النفسي والمعيشي. هذه الظروف أحاطت بإنسان وادي الرافدين، خاصة عندما يشعر بِأداء واجباته والتزاماته تجاه الآلهة، وفي نفس الوقت يتلقى الضربات والمصائب التي لا يستحقها(11). ولم يكن التشاؤم لدى إنسان وادي الرافدين حالة عرضية لليأس، بل كان ميتافيزيقي metaphisics الأصل- غيبي. كمنت جذوره في الآلهة ذاتها التي تجسدت في عناصر الطبيعة والكون وحملت في ذاتها عناصر الخير والشر وأصبحت مصدراً للحياة والكوارث معاً.
الأنهار والرياح والأمطار، مثلاً، وهي جالبة الحياة، يمكن إن تتحول لقوى مدمرة تهلك الزرع والإنسان.. وبمواجهة هذه الظواهر الطبيعية (الآلهة) القاسية، وجد القوم أنفسهم بلا حول ولا قوة.. ولَفَّهم القلق الشديد إزاء ترقبهم لغد غير مضمون تجاه حصيلة جهودهم، بل وحياتهم غير المستقرة.. فكانت حياة الإنسان وعائلته ونتاج حقله وماشيته، ومستويات الأنهار وفيضاناتها، وتوالي الفصول المختلفة، وحتى الكون ذاته، تحت رحمة القدر على الدوام. فإِذا بقي البشر أحياء، وإِذا عادت الحياة إلى الحقول بعد لهيب الصيف، وإِذا استمر القمر والشمس والنجوم والكواكب في حركتها. فإِن كل هذا يتحقق بإِرادة الآلهة التي تقرر مصائر الكون سنوياً. لذلك ففي مطلع ربيع كل عام، كانت تُقام احتفالات هائلة ومثيرة في مدن عديدة، وفي بابل بخاصة، تشمل طقوس الزواج الإِلهي المقدس، وتلاوة ملحمة الخليقة، وإعادة تثبيت الملوك، وتتوج أخيراً باجتماع الآلهة الذين "يقضون في المصائر" للسنة التالية. "عندئذ فقط بوسع الملك العودة إلى عرشه والراعي إلى قطيعه والفلاح إلى حقله. وعندئذ كذلك يستعيد ساكن وادي الرافدين ثقته بما حوله فبإِمكان العالم أن يستمر بالوجود، بِإِرادة الآلهة المسترضاة، لعام آخر أيضاً(12).".. "وإذا كانت حياة البابلي شاقة مثل حياة المصري فإِنها لم تستطع أن تحطم بشاشته الطبيعية ومرحه اثناء عمله اليومي. غير أن إنسان بلاد الرافدين كان غريباً عن الضحك، ويبدو أنه لم يكن قد تعلَّم كيف يلهو(13)."
رسمت العقيدة الدينية لإنسان وادي الرافدين أشكالاً معينة من التصرفات والممارسات التي ترضي الآلهة، وأُخرى لا ترضيها وتكون عرضة لجلب غضبها وانتقامها. فحرص القوم على إِرضاء آلهتهم لتحاشي غضبها وإنزال الشرور والأمراض بهم، كما حرصوا على تقديم القرابين لأِرواح الموتى لاعتقادهم بِأنها تحقق الراحة والاستقرار لروح الميت في العالم الأسفل، واهتموا كذلكً بدفن موتاهم وفق الشعائر والطقوس الدينية لأِن ذلك يمنع خروج روح الميت في شكل شبح مخيف يلحق الأذى بالناس. ومع ذلك بقي الإنسان هذا يعيش في خوف دائم من هاجس إِلهي جائر وآلهة
غير مبالين careless. وبملاحظته انتصار الشر على الخير يومياً، استمرت حياته متشائمة، وأصبحت نظرته السائدة: أن حياة الانسان ليست ذات جدوى إن لم تكن تافهة(14).



2- النصيب: القضاء والقدر


لكل إنسان، حسب عقيدة القوم، نصيبه المقدَّر له من قبل الآلهة منذ ولادته ولغاية مماته.. وهذا النصيب يتميز بحسن الطالع أو سوء الطالع. ويحدد يومياً اتجاه وسلوكية ومزاج الفرد الكلية. والنصيب موجود في طبيعة ألـ (نم) أو ألـ (شمتو) للفرد، وهما لفظتان أولاهما سومرية والأخرى اكدية, بمعنى سمة الشيء أو صفاته. وفي نص لـ: آشور ناصر بال (883-859 ق.م). يذكر الملك الآشوري بعد وصف مُجمل لإنجازات جيوشه:صرحت لي الشمتو عن طريق الآلهة العظام الذين أدوا الصلاة من أجل إدراك الشمتو الخاص بي… ثم يبين أن فتوحاته وانتصاراته هي جزء من (نصيبه) أثناء حياته ومماته. وبذلك تتضمن هذه اللفظة (الشمتو).. "إن شخصية الانسان هي هبة مرسومة الحركة والنتائج"، وهي نصيبه: قضاءه وقدره- منسوبة إلى قوة خارقة ما فوق الطبيعة، تُحدد مسبقاً سجايا وملكات وحياة وممات الجنس البشري(15). و (القَدَر) هو إِرادة إِلهية طالما أن الآلهة هي التي تحدد مصائر البشر. وفي مثل هذه العقيدة الدينية يعيش الإنسان في تناقض حاد بين الخضوع للقدر بما فيه من طوالع سيئة وبين التعاون معه حتى الموت.. هذه العقيدة القاسية التي تُجسِّد غياب إِرادة الانسان(16).
كما وأن الحالة الروحية لسكان وادي الرافدين التي تولي أهمية قصوى للسلطات التي تمارسها الظواهر المفاجئة على الفرد- المجتمع، توضح الأهمية الفريدة للطالع (الفأل) لديهم، باعتباره يكشف عن ألمستقبل."إن الطوالع التي تبين مقدماً المشاريع الإِلهية للعالم لا يُحصى لها عدد، وأهمها ذات نظام ميتافيزيقي، ويلعب الحلم، الذي له قيمة دينية، دوراً في تكوين الدين نفسه". ويمكن استخلاص الكثير من الطوالع من ولادة الكائنات الحية وغيرها من الظواهر الطبيعية والبشرية- الحيوانية. فالتشوه في خلقة المولود عند الإنسان أو الحيوان (حيث لم يكن واردا في عقيدة ميزوبوتاميا أن تمنح الإلهة ولادة لأِطفال معوقين أو مشوهين)، والتصدع في بيت وهو في طور البناء طوالع سيئة. بل هناك ما لا تُحصى من الظواهر والحركات اللاإِرادية التي تشكل علامات عن المصير الذي ينتظر الإنسان- المجتمع. كل هذه الحركات الغريزية وحتى الصرخات وحركات المجيء والرواح للحيوانات والطيور الداجنة والبرية، علاوة على حركات النجوم والكواكب ومظاهر الكون الأُخرى، كانت محل دراسة الكهنة(17).
هناك نص مسماري يتضمن 77 طالعاً سيئاً، منها: رأس مقطوع يضحك.. في نيبور زلزلت الأرض.. خروف له أربعة قرون شوهد في مدينة (دير).. شوهد ثور يسفد حماراً.. في مدينة كلدة شوهد ملح في المدينة.. شوهد على ضفاف النهر كبش يبول.. امرأة لها لحية وشفتها السفلى مشقوقة.. في مدينة (ديت البداء) وجد نحاس في أعماق الجبل.. أسد وذئب وخنزير بري دخلت المدينة.. شوهد صقر أبيض وعصفور أبيض في المدينة.. في بابل شوهد ضبع يفترس حية. هذه العلامات وغيرها كثيرة، تعتبر طوالع سيئة ومؤشرات مرسلة من القوى الخارقة لإِنذار الانسان- المجتمع. وعند ظهور أي من هذه العلامات الغريبة عن فهم القوم فلا بد من اللجوء إلى كل الطقوس والشعائر الضرورية لتحويل المجرى الخطير للطالع. وإلى جانب هذه الطوالع المشؤومة فإِن العلامات السماوية كانت ذات مدلول كوني. فالخسوف يُعتبر تهديداً لأِمن المدينة- الدولة كلها. وهو مسؤولية الملك الذي تقع عليه مهمة ممارسة كافة الطقوس لحماية مدينته- دولته(18).
تضمنت معتقدات القوم كذلك طوالع جنسية. تم ربط سلوكية شهوة الإنسان بِِأوهام المستقبل. الإله خلق الجنسين والتكامل الجسدي بغرض الإنجاب واستمرار الجنس البشري، مع إعطاء الأولوية للرجل حسب النظام التراتيبي الأبوي. وتُقرأ طوالع الجنس كعلامات مهمة لزيادة وتحسين الجوانب الحياتية لمستقبل الرجل. بمعنى أن منطق الفأل الجنسي يتضمن موضوع الذكر الذي عليه أن يكون دائما حذراً بِشأن عاطفته وأن يلاحظ حدود رخاوة جسده. فـ "إذا امتطت المرأة الرجل أثناء العملية الجنسية، فإنها ستسحب قوة الرجل لمدة شهر، ويصبح في حال غير جيدة".. ويرتبط ذلك أن الدور القيادي للمرأة هنا يتعاكس ونظام التراتيبية الأبوية.. و "إذا سمح الرجل أثناء العملية الجنسية أن تمسك المرأة قضيبه، عندئذ يصبح نجساً ولا تقبل الآلهة صلاته". وأيضاً "إذا كررت المرأة أثناء العملية الجنسية لمس فرجها، يصبح ذلك الرجل نجساً لبقية يومه وسترتجف يده".
وهناك طوالع ترتبط بعقيدة القوم بِشأن قوة النظر seeing وقدرتها على الإصابة أو سحب قوة الشخص محل النظر لصالح الفاعل (الناظر). فعندما يكون الشخص المعني محل النظر, يصبح قابلاً للعطب vulnerable ومعرضاً للانكشاف exposed. فـ "إذا نظر الرجل أثناء العملية الجنسية إلى مهبل المرأة باستمرار، تتحسن صحته وتحصل له البركة".. أما "إذا نظرت المرأة أثناء العملية الجنسية إلى قضيب الرجل باستمرار، سيتعرض للخسارة".
كذلك علَّقت طوالع حضارة وادي الرافدين اهتماماً واضحاً على المني (ماء الرجل) semen باعتباره رأس مال الرجل له أن يهدره فيواجه الخسارة وله أن يتصرف به بشكل سليم فيحقق الربح في حياته. فـ "إذا حصلت ممارسة جنسية لرجل مع امرأة، ثم قذف وانتشر القذف، سيكون ذلك جيداً ويحقق ربحا مالياً".. أما "إذا تكررت ممارسته الجنسية وتكرر قذفه، فإنه سيواجه مصروفات ثقيلة". و "إذا ما كرر الرجل ممارسته الجنسية بإفراط مع المرأة, فإنه سيموت في ربيع شبابه".
كما أن المكانة الاجتماعية للمرأة تلعب أيضاً دوراً في نجاح الرجل أو فشله أثناء ممارسته للعملية الجنسية. فإذا كانت المرأة تنتمي إلى مجموعة معبد عشتار أو القصر أو المعبد ومارس الرجل العملية الجنسية معها لمدة عام كامل، فإن الحرمان الذي كان يلفه، سيتخلى عنه.. بينما إذا تحققت هذه الممارسة مع عبدة في منزل الرجل، فإن الصعوبات ستلازمه(19).
وفي مثل هذه العقيدة التي جعلت من الشخص في مرتبة العبد، على أفضل افتراض، خضع إنسان وادي الرافدين في عقله وجسده وحياته إلى ثلاثة أشكال من القوى المسيطرة عليه سيطرة لا فكاك منها: الأول الخضوع لقرارات القدر التي لا ‘ترَدْ، وتقررها الآلهة وتحدد الخطوط العريضة والتفصيلية لحياته.. الثاني الخضوع لسلطة مطلقة يمارسها الملك باعتباره نائب الإِله في أرضه.. الثالث الخضوع لوهم هجوم القوى الشريرة والمتوحشة غير المنظورة من الشياطين والعفاريت المحيطة به كظله والتي تترقب الفرصة لمهاجمته في كل لحظة. وهكذا قادت هذه القوى الثلاثية المسيطرة على إنسان وادي الرافدين (الإِله، الملك، الشياطين) إلى خضوع عقلية القوم للغيبيات متضمنة مسلمات دينية وطقوساً سحرية متداخلة معها. يلاحظ مثلاً، عندما حدثت المنازلة الرهيبة بين (مردوخ) و (تيامات) أنهما لم يلجئا إلى قوتهما الذاتية، بل لجأ كل منهما إلى السحر الذي يُفترض أن قوته أعظم من القوة الإِلهية.. كذلك الحال عندما قتل انكي جده الأكبر ابسو (ملحمة الخليقة البابلية). ومع أن الممارسات السحرية تعايشت تاريخياً مع الطقوس الدينية على الدوام، إلا أن السحر احتل مكاناً سامياً خاصاً في ديانة حضارة وادي الرافدين.. فالسحر والتنجيم والعرافة توفر طرقاً للتنبؤ بالأحداث الكونية وأدراك نتائج القرارات الإِلهية وأخذ إنذاراتها بعين الاعتبار، و "إذا كانت الصلاة والقرابين تمكن من إرضاء الآلهة، فإِن الأشكال السحرية والطقوس الخاصة تطرد الشياطين. وفي الصراع ضد قوى الشر تتدخل (الرقيات) كأمرْ...(20)"



3- الخرافات: الشياطين والعفاريت



لا زالت الخرافات superstitions منتشرة في عصرنا الحاضر بهذه الدرجة أو تلك حسب مرحلة تطور المجتمعات، لكنها لا تشكل جزءاً من الدين الرسمي أو على الأقل ليست جزءاً رسمياً من فكر الدولة وممارساتها. أما في حضارة بلاد الرافدين، فكانت الخرافات ركناً أساسياً من أركان الدين والدولة نفسها، وتتدخل عميقاً في حياة الناس. ومن أبرز معالم الخرافات الاعتقاد بالأرواح.
آمن سكان وادي الرافدين بوجود نوعين من الأرواح: الخيّرة/ الحامية من الملائكة والجن الصالحين، وكانت أشهرها لديهم (ايلو- عشتار، لامو- شيدو). وهذه الأرواح الأربعة كانت تتميز في هذه الحضارة باعتبارها ذات طالع حسن وتلتصق بالمتعبد كالتصاق ظلِّه، وهي بركة إِلهية تساعد على تحقيق الكسب الوفير وإبعاد الشر واستمرار الصحة والنجاح. عليه فالشخص الذي له (أرواح حامية)- الملاك الحارس/ الإله الشخصي)- يكون سعيداً في حياته(21). وكانت الثيران المجنحة المعلَّقة خارج القصور الآشورية تُصور أرواحاً حامية.
وإلى جانب الأرواح الحامية، اعتقد القوم بوجود الأرواح الشريرة: الشياطين والعفاريت والجن الأشرار. وهناك أُناس مطبوعون على الشر من السحرة والساحرات الذين يمارسون (السحر الأسود) المؤذي. وهم قادرون على إصابة المرء بالمرض أو البلاء بفعل سحرهم الأسود، رغم إمكانية التغلب على هذه القوى الشريرة: عفاريت وبشر، بطرق سحرية مماثلة من قبل الكهنة السحرة لقاء أجر(22). والعفاريت لا تموت (خالدة) ولا يمكن تدميرها، ولكن يمكن عزلها ودفنها وإبعادها عن الأذى. ولحسن الحظ فهي، حسب عقيدة القوم، حسنة النية إلى حدود الغباء لكونها تتمتع بذكاء واطئ، لذلك يمكن بواسطة السحر الاحتيال عليها وإقناعها بالخروج من المكان المؤذي (بيت، جسم مريض..) وحبسها في قمقم أو تمثال- يصنعه الساحر لهذا الغرض- ويقوم بدفنها، أو تحويل انتباهها إلى حيوان أو شيء خارج المجال لتنتقل إليه(23).
وتتفوق الأشرار من الجن على الجن الأخيار تفوقاً عددياً هائلاً. فهناك مجموعة يعتبرون من أبناء الآلهة الأشرار ممن سحقهم (مردوخ)- ملحمة الخليقة البابلية. ومجموعة أخرى قيل أن انو إِله السماء وضع بيضها. كذلك تتواجد مجموعة من العفاريت ترجع أصولها إلى العالم الأسفل، أي أرواح الموتى ممن لم يتلقوا دفناً لائقاً أو لم يجدوا من يُقدم إليهم النذور والقرابين أو ماتوا ميتة غير طبيعية (أسطورة موت انكيدو). وهذه المجموعة تظهر في أوقات متقطعة(24). اشتهرت في حضارة وادي الرافدين فئة من العفاريت تُعرف بـ (السبعة) أو (مجموعة السبعة)- انكو- وهي ذات أصل إِلهي، قوية جداً بحيث لا تقف قوتها عند التدخل في حياة البشر، حسب، بل وتتدخل حتى في حياة الآلهة نفسها. مثال ذلك خسوف القمر، إذ يبين نص مسماري أن "سبعة آلهة شريرة (مجموعة خاصة من العفاريت) شقَت طريقها نحو قبة السماء، وتجمعت غاضبة حول هلال إِله القمر." وفي هذا النص كانت الآلهة نفسها تتعامل مع هذه المعضلة. ولكن للناس دورهم حين يحدث الخسوف، وذلك بالمساعدة على طرد العفاريت التي سببت الخسوف، إذ يتم نصب نوع من الطبلة (النقارة) في ساحة المعبد وقرعها. وهذه العادة ظلَّت ممارسة تقليدية للناس حتى بعد أن اكتشف البابليون سبب الخسوف واستطاعوا حساب ذلك "بدقة فائقة(25)." بل واستمرت هذه الممارسة لغاية فترة مُتـأخّرِة في العديد من المدن والقصبات العراقية، عندما كان النساء والأطفال يهرعون إلى السطوح عند خسوف القمر ومعهم ما متاح من أدوات المطبخ النحاسية (وغيرها) لضربها ببعضها وإحداث أصوات عالية من أجل تخويف العفاريت وطردها وتحرير القمر.
وتمارس هذه العفاريت (السبعة) طرقاً عديدة لتعذيب القوم، فهي تتجسَّد في صورة شيطانات الأحلام اللواتي يجامعن الرجال أثناء نومهم.. وهناك عفاريت أُخرى أشهرها (لاماشتو) تقوم بسرقة الأطفال حديثي الولادة من أُمهاتهم.. وتمنع الشيطانة أو (عفريتة الأحلام)- ابنة انو- ولادة الأطفال في الوقت المناسب كما تقتل الطفل الوليد. وهي العين الشريرة والنفس الوسخة التي تصيب الشخص ممن يقع ضحية تحت نفوذها ودون أن يستطيع الهرب منها لأِنها من القوة بحيث تكون قادرة على حبس المطر في السماء، وهي تُعيق نمو القصب، وتسلط العقم على المواشي والعائلات(26).
توجد العفاريت في كل مكان تقريبا، رغم أنها تفضل أماكن خاصة، مثل الصحاري التي تُعد خطرة على المتجولين فيها، والمقابر والخرائب التي تعتبر مفضلة تكمن فيها. ويحتمل أن يزيد نشاط العفاريت في مناسبات خاصة مثلاً عندما تنتظر المرأة الولادة أو عند ولادتها تواً. لذلك يُعزي الفكر القديم إلى العفاريت النسبة العالية من حمى النفاس وموت الوليد. وأن أغلب المصائب التي تصيب القوم كانت تنسب إلى التدخل المباشر للعفاريت(27). هناك نص مسماري يقول "إن الأرواح الشريرة كالعشب الذي يغطي الأرض، برقها يصعق ويحرق كالنار، تُصيب الإنسان بالمرض وهو في فراشه، وتضيق على جسده، وتملأ المدن والأرياف نواحاً وآهات (28)."
بوسع العفاريت أن تتخذ جميع الأشكال: أن تستلقي على هيئة حمار.. أن تطوف المدينة في شكل كلاب الصيد.. أن تنساب على الأرض كالأفاعي. ولها القدرة على اختراق البيوت من خلال شق الباب، والاندفاع مثل تيار هوائي، والقيام بحركات خاطفة، وهي تطير بسرعة هائلة كالشهب(29). كما عُرفت (مجموعة السبعة) كونها أكثر العفاريت الرهيبة والمرعبة، فنباحهم في كثير من الأحيان أسوأ من عظتهم، وليس بمقدورهم دخول البيت أو الصفير أو التمتمة أو قلب الأشياء رأساً على عقب، حسب، بل كذلك يستطيعون شق طريقهم إلى الاصطبلات وإيذاء الحيوانات وجعلها تفر إلى مختلف الجهات "وهذا هو مبدأ سيطرة الأرواح الشريرة بالمعنى الذي كان سائداً في العصور الوسطى." ومهما وضِعَتْ من حواجز فإِن هذه الأرواح الشريرة تستطيع ولوج البيت والقيام بالأفعال الشريرة، ودفع العائلات أن تتخاصم مع بعضها. وهي تتحمل مسؤولية أي ظرف سيئ يحيط بالإنسان "وواقع الآمر أن الكآبة الشديدة كانت طابع إحساس الإنسان بِأنه محاط من كل جانب بِأنواعَ من أعداء غير منظورين"، والتي قادت تصرفاتها إلى إنزال المصائب بالسكان في حياتهم اليومية، كسوء الحظ والمشاكسة والعصبية(30).
وهكذا امتدت هذه الخرافات بين القوم إلى درجة أن مهمة تشييد مبنى أصبحت عملية خطيرة تتطلب اتخاذ الإجراءات الاحترازية الملائمة، وإِلا قد تُطلق مجموعة من القوى الشريرة. وبغية إحباط قدرات هذه القوى،كان سكان وادي الرافدين يدفنون تماثيل صغيرة أو دمى في زوايا الأبنية أو تحت عتبات الأبواب. استمرت هذه العادة في الفترة اللاحقة بعد أن اقتصرت على دفن نقود قليلة في الأرض مصحوبة بقطعة من جلد تحمل أسماء معينة (رقى/ تعاويذ). "وهذه الفكرة تشكل أصل التطبيق الشائع في العالم بِشأن وضع (حجر الأساس)(31)." كما أنها تواصلت، على الأقل، عند العراقيين، بتقديم الأضاحي الحيوانية عند بدء الأساس و/ أو الانتهاء من البناء.. "لقد كان الآلهة العنيفين المسارعون إلى الغضب لا يكفون عن المطالب التي يبتزونها من البشرية، والتي كانت تلف كل عمل من أعمال الحياة الدينية في شبكة من التزامات خالية من الرحمة، من أمثال تصوير العالم وهو مأهول بالعفاريت والأتنة التي تُطارد فرائسها، والطبيعة المعادية... وحياة في الآخرة أكثر شقاء من الحياة الأرضية... ذلك الفزع هو الانطباع عن الشقاء المستور الذي كان يخلفه الدين الذي لا يرحم والذي كان سكان بابل من أسراه(32)."

ايسوس العراق

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 7:04 pm

4- الخطايا والمحرمات: الطهارة والنجاسات


رغم أن فكرة الخطيئة والاعتراف والتوبة معروفة في الديانات بعامة، لكنها تختلف في ديانة حضارة وادي الرافدين، فلم تقتصر على كونها صعبة وشاقة حسب، بل هي كذلك قاسية لدرجة يصبح من المستحيل الإيفاء بطقوسها والتزاماتها في حدود تُحقق رضاء الشخص بالعلاقة مع ذاته وآلهته ومجتمعه. فالمذنب التائب لم يكن عليه فقط الاعتراف بكل الخطايا التي يعلم أنه ارتكبها، بل عليه كذلك أن يتلو خطايا إضافية ربما لم يكن قد ارتكبها أو ارتكبها دون قصد أو معرفة. ويرتبط بذلك أن الإنسان كان مهيئاً للخطيئة وارتكاب الذنوب عن وعي أو دون وعي. وهناك أنواع كثيرة من الخطايا تتقدمها معصية الآلهة واختراق نواميس الأخلاق (المجتمع) وعدم قيام الإنسان بواجباته الدينية والإخلال بها. وعندئذ يفقد المذنب توازنه ويصبح عرضة للكوارث والويلات والاضطرابات والمرض وربما الموت. إن الخطيئة هي مصدر العقاب، أما الحياة الفاضلة فكانت مصدر الثواب(33).
اعتقد القوم أن الخطيئة قديمة قدم الإنسان.."إنهم يقولون (أي الحكماء) كلمة صادقة: ما ولد طفل بلا خطيئة... وما وجد طفل بلا خطيئة منذ القدم(34)." ورأي الحكماء هذا قد يخفي معنى فلسفياً قوامه استحالة تجنب الخطايا نظراً لكثرة المحرمات والممنوعات الدينية- الأخلاقية التي لا يستطيع (افتراضاً) حتى الطفل تجنبها أو الفكاك منها. وكانت الخطيئة في حضارة وادي الرافدين هي دينية بعامة، وأن أكثر الخطايا التي يرتكبها الإنسان بقصد أو بدون قصد تقف وراءها القوى الشريرة (الشياطين) التي توسوس للإنسان ارتكابها(35).
كان الكاهن يسأل التائب بعد أن يسمع اعترافه: إذا كان قد أساء إلى آلهة معينين، أو مارس الكذب، أو عاند سيده، أو أثارَ العداوة بين العائلات والأصدقاء، أو تسلَّم ما ليس من حقه، أو زيَّف علامات الحدود، أو استعمل الموازين غير الدقيقة، أو احتفظ بما وجب إعطاؤه، أو سرق ودفع الآخرين للسرقة، أو تسلل إلى بيوت الآخرين، أو جامع زوجة جاره، أو ظلم أحداً، أو رفض إطلاق أسير. وهذه جانب فقط من الذنوب التي تتحقق نتيجة فعل مقصود. وهناك مجموعة أخرى من الخطايا التي يُحتمل أن التائب لم يرتكبها أو ارتكبها دون معرفة أو قصد، لكنها تثير حنق الآلهة. لذلك يستمر الكاهن في سؤال التائب: هل رافق أحد المسحورين، وهل نام في سريره، أو جلس على مقعده، أو أكل من صحنه، أو شرب من قدحه. وحين سار في الشارع: هل داس على آنية خمرة قُدمت للآلهة، أو وضع قدمه في ماء قذر، أو تخطى الماء المقدس، أو نظر مرتاباً إلى الماء المستعمل لغسل اليدين، أو لمس امرأة قذرة اليدين، أو نظر إلى فتاة لم تغسل يديها، أو لمس رجل لم يغسل يديه، أو لمست يده جسداً وسخاً. وهذه تُشير إلى عدم الطهارة في تأدية الشعائر الدينية، وهي أقرب ما تكون إلى السحر والغيبيات(36).
ولما كان القوم يعتبرون القانون الصادر عن الملك يستوحيه من الإِله الذي ينوب عنه في حكم مدينته- دولته، لذلك أصبحت طاعة الملك والقانون من الالتزامات الدينية التي تحتل الأولوية، وأن أي انتهاك مهما كان ضئيلا لهذه الالتزامات هو خطيئة ضد الإِله(37). "ومن الواضح أنه إذا كان كل عمل من أعمال الإنسان هذا يعتبر خطيئة فمن النادر أن يكون باستطاعة أي فرد أن يأمل في التهرب من الانتقام الإِلهي(38)."
إن ارتكاب ذنب- خطيئة ينجم عنه أضراراً جسيمة سواء على المدينة التي يقترف أهلها الذنوب أم على الشخص المذنب. فالإِله الشخصي يتخلى عنه ويصبح عرضة لهجمات العفاريت. وكذلك حال المدينة المذنبة إذ يتخلى إِلهها الحامي عنها فتصبح مفتوحة أمام الأعداء وعرضة لأِشكال المصائب والويلات والخراب (بمعنى أن زوال المدينة "الدولة" يقع على عاتق أهلها ممن تخلوا عن واجباتهم تجاه إله المدينة، فهجر مدينته وصارت مفتوحة أمام الأعداء لتدميرها). وليس الإنسان هو الوحيد الذي يمكن أن يقع ضحية خطاياه المقصودة وذنوبه وجهله، فمن المتوقع أن يُعاقب عن جريمة ارتكبها غيره لأِن الخطيئة تنقل عدواها. والمذنب يمكن أن ينتقل ذنبه للأبرياء الذين يُصادفهم. ويُعبر مفهوم العدوى والمرض وتسلط القوى الشريرة عن أساس هذا الاعتقاد. كذلك الحال مع السحر، فالحديث مع إنسان مصاب بالسحر أو مشاركته طعامه أو شرابه أو مجلسه، يكفي لانتقال عدوى السحر إلى الشخص الآخر. وليس الأحياء وحدهم ناقلي عدوى الخطيئة فالظواهر الطبيعية مليئة بالعناصر الشريرة الناقلة للعدوى(39).
وهكذا كان على الإنسان دوماً، سواء ارتكب خطيئة بقصد أو دون قصد أو لم يرتكبها أصلاً، أن يتوجه أثناء أداء التزاماته الدينية اليومية (الصلاة مثلاً) نحو الآلهة طالباً المغفرة من ذنوبه. ففي أحد التعاويذ السومرية يقول التائب: "أيها الإِله، إن أخطائي وإساءاتي كثيرة، إن البشر خرس لا يعرفون شيئاً، والإنسان مهما بلغ مركزه، ماذا يعرف؟، سواء أتى إِثماً أم خيراً، فهو لا يعرف شيئا(40)ً."
ونقرأ في نص آخر"هل تقوى على التخلص من خطيئتك، ومصيرك، وذنبك، وعملك السيئ، وتشويه سمعتك، ومرضك، وعذابك، وسحرك, وأذى الغير… لقد طالتني النجاسة، وإني أجثوا أمامك لتحاكمي وتصدر قرارك، حاكمني وأصدر قرارك على إِثمي، واستأصل المرض الخبيث من جسمي ودمّر الشر الذي في لحمي وعقلي، حتى إذا ما زال الشر عن جسدي ولحمي وعقلي أقوى على رؤية نورك(41)."
وكانت اللعنة ملتصقة بالخطيئة، وهي من القوة بحيث أن الإِله مجبر على تحقيقها حتى لو كانت ظالمة. إن لعنة ادابا (أسطورة ادابا) كسرت أجنحة الرياح الجنوبية. كذلك كانت لعنة انكيدو للمومس. فرغم أن الإِله شمش عنَّف انكيدو على لعنته، ومع أن الأخير تراجع عنها وبدَّلها (ملحمة كلكاش- موت انكيدو) إلا أنه (شمش) صار مجبراً على تحقيقها ومسخ المومس إلى كلبة هربت للأرياف(42)!
ورغم هذا المظهر السلبي والعقيم للخطيئة، إنصاع إنسان وادي الرافدين إلى احترام الأوامر والتعاليم ورعاية الطقوس حتى يعيش بسلام مع الإِله. وفي نص مسماري آشوري يقول "إن التقصير الذي يرتكبه الإنسان عن جهل يجلب عليه غضب الآلهة الآشورية وانتقامها(43)." كما وأن الإِقدام على أي أمر مجهول أو غريب يُعتبر عملاً مذموماً (خطيئة) حتى لو تم من غير قصد، وهذا ما يفرض يومياً على الإنسان أن يرفع يديه للآلهة معترفاً بذنوبه، لتهدئة غضب الآلهة، مستجدياً الرحمة لتحاشي الانتقام، ومتوسلاً الحماية من القوى الشريرة.
كانت قائمة النجاسات طويلة وغريبة في حالات عديدة، والإنسان المصاب بها يعتبر نجسا ويُحرم على الغير الاقتراب منه أو لمسه أو أدواته، وفي غير ذلك عليه تلبية طقوس الاغتسال والطهارة. من أمثال هذه النجاسات: المصاب بالسيلان والمرأة أثناء الحيض والمسحور. بل- وحسب عقيدة القوم- فإِن كل مرض عقلي أو بدني يجعل المصاب نجساً طالما يعني اختراق الأرواح الشريرة لجسم المريض! وهناك أيضاَ محرَّمات كثيرة، ففي نص رسالة ملكية تضمنت ماهية المحرَّمات (التابو) التالية(44): "محرَّم على أي شخص الخروج من بيته، محرَّم على كل كلب أن ينبح، محرَّم على كل ديك أن يصيح، محرَّم على كل خنزير أن يصات، ناموا، ناموا، إلى أن يمر المحرم."
ويشير النص التالي للأوامر التي يجب احترامها خلال يوم (السبت البابلي)- ف9/ هامش9- وهو يوم محرَّم لا يقوم فيه أحد بِأي عمل. فالملك لا يأكل لحماً مشوياً ولا يبدل ثيابه ولا يقدم قرباناً ولا يركب عربة، ولا تنطق الكاهنة أو الساحر بتنبؤ، وحتى الطبيب لا يضع يده على مريض(45).
ويعتبر شهري تشريت ونيسان من الأشهر المهمة جداً عند البابليين، وفي كل يوم من أيام الشهر وجدت قائمة طويلة بالمحرَّمات. من أمثلة ذلك: شهر تشريت (اليوم الأول)- لا يقابل خنزيراً في السهل لأِن (هللولي) سيقع اختياره عليه، لا يأكل ثوماً وإلا لدغه عقرب، لا يأكل بصلاً وإلا مات كهل من عائلته.. (اليوم الثاني)- لا يروي بالماء حقل سمسم وإلا أُصيب بمرض، لا يقترب من إمرأة لأِنها ستنزع عنه قوة الإخصاب.. (اليوم الرابع)- لا يعبر نهراً وإلا فقد رجولته، لا يأكل لحم عصفور ولا يذهب إلى بيته في الحقول وإلا أصبح عدواً له من ليس له بعدو.. (اليوم الخامس)- لا يأكل لحم خنزير وإلا رُفعت عليه شكوى، لا يتوجه إلى بستان وإلا ضربه الإِله نوسكو.. (اليوم السابع)- ليسكت في منزلته ويحافظ على الصمت فتشفع له (ننليل) عند (انليل) ولا يحاكم ويحفظه الإِله.. وفي الأشهر الأُخرى تكون الأوامر أقل قسوة، رغم أن فيها أياماً خطيرة من المحرَّمات، مثال ذلك: (اليوم السادس)- لا يُضاجع امرأة ولا يتلو صلاة الندامة والتوبة.. (اليوم الثامن)- لا يخرج إلى الطريق وإلا… (اليوم الثامن)- لا يخرج من الباب وإلا ماتت زوجته.. (اليوم الثلاثين)- لا يخرج الحنطة ولا يغربل قمحاً وإلا احترقت الهراء(46).


5- الفلسفة والأفكار


تضمنت ملحمة الخليقة البابلية مضامين فلسفية واسعة، إذ وضعت الخلق، ليس باعتباره، بداية، بل كنهاية، وليس عملاً غير مبرر قرره إِله واحد، بل نتيجة معركة كونية بين وجهي الطبيعة: الخير والشر- النظام والفوضى، وكشفت، بين أمور أُخرى، وجوب خدمة البشر للإِله، وشرحت سبب تواجد عنصر الشر الطبيعي لدى البشر المخلوقين من دم إِله شرير. "وإذا كانت قصيدة (حينما في العلى...) قد بقيت تتلى من قبل كهنة بابل كل عام، في اليوم الرابع من احتفالات السنة الجديدة، طوال ألفي سنة تقريباً، فإِن ذلك يعود إلى شعور البابليين بِأن القتال الكوني لم ينته تماماً أبداً، وأن قوى الشر والفوضى كانت مستعدة على الدوام تهديد ومنازلة النظام المكين للآلهة." وكان هذا (نهاية العالم) أحد مخاوف كثيرة جعلت إنسان وادي الرافدين يعيش في قلق مستمر من توقعات حصول الكارثة(47).
وكما سبقت الإشارة، فإِن الدين لم يلعب الدور الكبير الذي لعبه في حضارة وادي الرافدين في أي مجتمع آخر قط، لأِن إنسان هذه الحضارة كان يشعر على الدوام أنه يعتمد في وجوده واستمراره كلياً على إِرادة آلهته. بمعنى أن عقيدة القوم كانت تنسب ذات الإنسان إلى العالم الخارجي (القوى الخارقة) في غياب إِرادته- فكراً وممارسةً. بل وحسب Julia M.Asherلا توجد لفظة سومرية محددة بمعنى ذاكرة أو عقل الإنسان، وأن العلاقة بين الفكر والعقل لم تكن قائمة. من هنا غلبت على الحصيلة الدينية للقوم وأساطيرهم الغيبيات والخرافات، وغلَّفت أفكارهم الخيالات الجامحة بالهرولة وراء الأوهام من قوى خارقة وشياطين وعفاريت غير منظورة، واتخاذ الطقوس الدينية مرجعاً ومصدراً ومنهجاً للكشف عنها وتفسيرها والتعامل معها بما يحقق لهم الحياة الآمنة والسلام الذاتي المنشود. وهذا هو السبب الذي يجعل التقسيم الحديث للفكر والمعرفة إلى فنون وعلوم تطبيقية يبدو غريباً عن تصورهم، حيث اعتبروا كل علوم المعرفة متماثلة وذات أهمية متساوية، ولم يستطيعوا ملاحظة عملية نشوء وتطور المعرفة كما هو حاصل في العصر الحديث(48).
ومع أنهم عالجوا أموراً لا تقل شأناً وخطورة عما كان يشغل الفلسفة اليونانية والفكر الحديث، وحققوا عدداً مهماً من الإيجابيات، بيد أن تفكيرهم كان "خيالياً وشعرياً وأسطوريا" في تفسير القضايا الأساسية التي عالجتها الفلسفة اليونانية بأسلوب موضوعي يقوم على منهج الاستقراء والاستنتاج inductive & deductive الذي غاب عن تفكير حضارة وادي الرافدين. عليه، لم يحرزوا سوى تقدم بطيء في حركة تطور جهودهم. إِذ أسسوا علومهم وفنونهم على مبادئ ما ورائية (ميتافيزيقية) فأوصدوا الباب أمام الجهد المثمر عن تفسيرات عقلية لمنشأ الظاهرة. لقد كشفوا أجوبة للكثير من الأسئلة المتعلقة بـ (متى) و (ماذا) يحصل هذا أو ذاك، بتركيزهم على مسبب الحدث (الإِله) لا أسباب الحدث وكيفية حصوله. وهذا ما يعرف بـ "الفكر الميثوبي" METHOPEICKK، أي الفكر الأسطوري الذي ينحى في تفسير الأحداث منحى أسطورياً. وهذه النظرة الطوباوية منعتهم من أن يسألوا أنفسهم (كيف) و (لماذا) حدث هذا أو ذاك. ولم يجربوا أبداً تأسيس نظريات في هذه المجالات، بل كرسوا جُلَّ اهتمامهم على جمع المعلومات وترتيبها بطريقة بدائية لم تخلُ من السماجة والأخطاء. ويرتبط بذلك أن (قانون العلة) Law of Causality الذي يشكل أساس منهج العلوم الحديثة لم تكن له أثاراً واضحة في الفكر القديم. يضاف إلى ذلك فبدلا من منهج الاستقراء والاستنباط وقانون السببية أساس منهج الفكر الحديث، اعتمد الفكر القديم على المثالية المطلقة ومنهج التمثيل والقياس analogy أي منطق تسبيب حدث ما بحدث سابق عليه، مثلاً فيضان النهر بسبب غضب الآلهة، موت صاحب الدار بسبب نعيق الغراب على سطح داره(49).
صاحبت ديانة وادي الرافدين التناقضات والصراعات التي شكلت أكثر مظاهرها البارزة. فالعقيد الدينية تميزت بتعدد الآلهة، ولكل مدينة إِلهها الحامي. ورغم تماثل النمط العام لهذه العقيدة وتقبل الفكر الديني نظاماً معيناً من الأبوة والقربى خاصة بالآلهة، كما هو الحال عند البشر، إلا أن كل سلطة كهنوتية داخل كل من تلك المدن راحت تضع مجموعة معتقداتها المنفردة الخاصة بها مُرَكِّزة على تعظيم الإِله الحامي للمدينة. وهكذا أخذت المدن الأقوى تبتلع جاراتها من المدن الأضعف الواحدة تلو الأُخرى من أجل تعظيم الإِله الحامي للمدينة وملكها، واستمرت الصراعات على امتداد هذه الحضارة تقوم على وجهة النظر الدينية هذه في تعظيم الإِله الحامي، دون إغفال الدوافع والأسباب الأُخرى، خاصة الاقتصادية(50). وفي مثل هذه الحياة التي كانت تواجه أصلاً صراعاً حامياً مع الطبيعة (الآلهة) القاسية، أصبحت بيئة الإنسان- المجتمع مليئة بالصراعات والخوف والقلق. وفي ظروف نظرة الإنسان السومري- الآشوري- البابلي إلى حياته باعتبارها عبثاً على الأرض، وما ينتظره من حياة وراء القبر في العالم الأسفل من الظلمة والتراب أسوأ حالاً، فإِن شعور إنسان حضارة وادي الرافدين وانعدام أمله أن تكون له قيمة في هذه الدنيا أو العالم الآخر خلقت فيه باستمرار عوامل اليأس والتشاؤم، بحيث أصبح هذا الموقف جزءً من فكر بلاد الرافدين(51).
كان إنسان وادي الرافدين هدفاً مستمراً لهجمات الشياطين والعفاريت في كل لحظة متوقعة، وكان عليه اتباع ما يكشفه طوالعه والعمل على تحويل تلك السيئة منها. وهذا قد يتطلب منه تعديل حياته سواء بالعلاقة مع عمله ورزقه أو عائلته وعلاقاته الاجتماعية وغيرها. من هنا أصبح إنسان وادي الرافدين ضحية الأوهام والخرافات، تائها منقاداً لتصورات الأخطار (الخرافات) الشديدة التي يتخبط فيها، وكان عليه دوما أن يكشف طالعه ويميز بين الخير والشر تجنباً للمصير المؤلم الذي ينتظره كل يوم وكل لحظة(52).
وبغرض معرفة طالعه أو معالجة مرضه كان لزاماً عليه طلب المساعدة من خلال الطقوس السحرية. وكان السحر يقوم على مبدأين يرجعان أصلاً إلى المنطق البدائي: أولهما الاعتقاد بإمكانية إحداث الشيء بتقليد عملية حدوثه، وهو ما يُعرف بـ (مبدأ التشابه). مثل رسم صورة الحيوان الذي كان يرمي إنسان الكهوف إلى اصطياده لتوفير غذائه. حيث اعتقدوا أن رسم الصورة يمكن أن يؤدي إلى وقوع الحيوان فريسة سهلة أثناء مطاردته. وبالمثل فإِن عمل دمية ثم كسر يدها أو إتلاف عينها يلحق نفس الأذى بالشخص أو الشيء المعني (الشبيه بالدمية). ثانيهما الاعتقاد بِأن الأشياء التي كانت جزءاً من جسم الإنسان تبقى على صلة به حتى بعد انفصالها عنه، وهو ما يُعرف بـ (مبدأ المصاحبة). مثال ذلك الاعتقاد أن بمقدور الساحر تسبيب الأذى لشخص معين من خلال تأثيره السحري في خصلة من شعر ذلك الشخص أو قلامة ظفره أو ضرس مخلوع(53). وكانت هذه الطريقة شائعة في العديد من المدن والقصبات العراقية لغاية فترة متأخرة، خاصة عندما يشعر الشاب بحبه لشابة لا تُعير له اهتماماً، فيلجأ لمثل هذه الطقوس السحرية عند أهل الرقي والتعاويذ لكسب حبها. هذا علاوة على لجوء البعض لما يسمونه بالسحر الأسود باستخدام الساحر تلك الأجزاء التي كانت مرتبطة بجسم الغريم، بل وحتى قطعة من لباسه. وفي سبيل حماية الشخص من خطر الشياطين والأرواح الشريرة أو شفائه من المرض الذي سببته، ابتدع السحرة القدماء (الحرزة) التي كانت تحتوي على تعويذة مكتوب فيها دعوة للآلهة حماية صاحب الحرزة، وتحتوي كذلك صورة الشيطان المقصود الذي يراد تخليص المريض أو حمايته منه. وهناك نماذج كثيرة جداً من هذه الأعمال في النصوص المسمارية المكتشفة، ومنها حرز عُملت خصيصاً لحماية النسوة أثناء الحمل والرضاعة. كما وأن عادة حرق البخور تمتد في أصولها إلى الاعتقاد بطرد الشياطين والأرواح الشريرة.
وإذ يعتبر الفكر الحديث القيم الدينية: الخير والشر، الحق والباطل، العدالة والظلم، الحلال والحرام. مفاهيم مشتملة على نوع من الوجود المطلق وتخص الفرد نفسه ومعتقداته، فإِن الفكر العراقي القديم اعتبرها من نتائج إِرادة الآلهة، وجزءاً لا يتجزأ من أمور الحياة والتي على الإنسان- المجتمع البحث عنها والتعامل معها، رغم أن الحياة الدنيوية النسبية بطبيعتها تبقى عاجزة عن التعامل مع هذه القيم المثالية المطلقة(54).
من أنماط التفكير الأُخرى لدى القوم ما يُعرف بـ (مبدأ الاسم). ويقوم هذا المبدأ على قاعدة تقول: لا يمكن أن يوجد شيء دون أن يكون له اسم. فتسمية الشيء مرادفة لوجوده وخلقه، وهو ما ركَّزت عليه ملحمة الخليقة البابلية التي تبدأ فاتحتها: حينما في العلى.. لم تُسمَّ السماء باسم. وفي الأسفل لم تُذكر الأرض باسم. ولم يكن لأِي شيء اسم.. وما دام لم يكن للشيء اسم فهو غير موجود. ويقوم التوراة على نفس المنطق عندما يذكر: إن الله بعد أن خلق الحيوانات استدعاها أمام آدم لكي يعطيها أسماءها وبذلك يضفي عليها وجودها الفردي (الإصحاح الثاني). وكذلك عندما سأل موسى ربه عن اسمه، لم يبح به، بل قال "أنا من أنا" (سفر التكوين 5- 5، سفر الخروج 3: 13-14). كما ورد نفس المبدأ في (كتاب الموتى) عندما يقول "لم أمتْ ولم يمتْ اسمي". ويركن أفلاطون إلى نفس الخط من التعليل فيرى في المعلول انعكاساً لاسمه الصحيح. وهذه الفكرة تشبه نظرية شوبنهاور (1788- 1860)- الفيلسوف الألماني- صاحب نظرية التشاؤم- القائلة بعدم إمكانية وجود العلَّة دون المعلول(55).
وبذلك يصبح (الاسم) الذي هو رمز تعريفي للمعلول، وكأنه جوهر المعلول ووجوده، وله نفس مواصفاته وسماته. وهذا محل شك كبير أمام المعالجة الفكرية الحديثة. وارتباطاً بنظرة القوم إلى أن اسم الشيء يضفي عليه وجوده وسماته، اهتم سكان وادي الرافدين باختيار (الأسماء الحسنى). فجاءت أسماؤهم إِلهية الاشتقاق، بربط اسم الشخص بالإِله بعبارات الشكر والثناء والطاعة والعبودية. وامتدت هذه العادة الدينية لتشمل حتى أسماء الشوارع. ويرتبط بذلك اتخاذ ملوك حضارة وادي الرافدين ألقاباً وأسماء تعظيم وتمجيد متعددة، كما خلع البابليون على إلههم الحامي (مردوخ) أسماء تعظيم وتمجيد بلغ خمسين اسماً (ملحمة الخليقة البابلية) وهي طريقة معتقدية تعظيمية استمرت لغاية الوقت الحاضر بالعلاقة مع أنظمة الحكم الأبوية- القبلية(56).
وما دام اسم الشخص يعكس جوهره وقوته ووجوده، لذلك كان على صاحبه أن يحرص على عدم كشفه خوفاً من استخدامه من قبل السحرة. يلاحظ على المصريين مثلاً تسميتهم للطفل باسم بينما ينادونه باسم آخر طوال حياته. وهناك أسطورة مصرية تقول: عندما شاخ الإِله (رع) تعلمت (إيزيس)- الساحرة- كيف تمزج لعاب بعض الآلهة بالتراب لتصنع منها (أفعى) وضعته في طريق (رع) فلدغه في عقبه، وفي سورة غضبه استدعى إليه (إيزيس) التي ادعت أنها لا تستطيع معالجته ما لم تعرف اسمه الحقيقي.. وبفضل هذه المعرفة ارتفعت (إيزيس) لمصاف الآلهة(57).
ورغم مشاركة المجتمع الحديث في فكرة تبني اسم الشخص متجسدة في البطاقة الشخصية، فإن هناك اختلافاً موضوعياً، فالفكرة حديثاً تقتصر على تعريف هوية الشخص دون إضفاء أية صفة أُخرى، بينما اعتبر الاسم قديماً جوهر الشيء ووجوده ومادة مهمة لأِعمال السحر.
اقترن المنهج الفكري لحضارة وادي الرافدين بالتركيز على مبدأ التمثيل والقياس. فأصبحت جهودهم في مختلف حقول المعرفة بما في ذلك الفلك والتنجيم والتنبؤ والسحر والعرافة ومعرفة الطوالع وطرق الكهانة المختلفة تنطلق من هذا المبدأ، كما في محاولاتهم تفسير الظواهر الطبيعية على أساس علامات إِلهية لما ستقع لاحقاً. وكذلك جاءت طريقتهم في التصنيف بالعلاقة مع حقول المعرفة المختلفة على أساس التشابه الظاهري، وهو أسلوب مشتق أيضاً من التمثيل والقياس. "وهذا يعني في الحقيقة وجود خطر أخذ القشور دون اللباب(58)." وعلينا كذلك أن نأخذ في اعتبارنا ونحن نعيش عصر الحضارة الحديثة أن منهج القياس لا زال يطغى على الكثير من تفكيرنا وسلوكنا وأحكامنا!!
وأخيراً قبع تفكير ومنهج حضارة وادي الرافدين في اعتقاد القوم إمكانية معرفة إِرادة الآلهة من خلال ملاحظة علامات سماوية- بشرية- حيوانية- كونية غريبة على فهمهم، بدراستها وتفسيرها ومعرفة كنهها والتصرف إزاءها بما يحقق رضاء الآلهة. من هنا تركزت جهودهم وانحصرت في إطار ديني غيبي مانع بصرامة توجيه فكر الإنسان إلى ما هو أكثر من العلم التقليدي الموجه لمعرفة إرادة الآلهة (العلامات الكونية). وتحريم إعمال الفكر في كل ما هو جديد خارج التفسير الديني، وبقيت هذه الجهود محدودة في حصيلتها أمام هذا الانغلاق الفكري لغاية توقفها وموتها مع موت هذه الحضارة.
وفي الختام، ومع أن الحضارة السومرية- أساس حضارة وادي الرافدين- تشكل بداية التاريخ حسب (كريمر)- التاريخ يبدأ من سومر- ورغم الاعتراف أنها تُعتبر المعجزة الحضارية الأُولى بالعلاقة مع المعجزة الحضارية الثانية (الأغريقية) والمعجزة الحضارية الثالثة (الغربية)(59)، فإِن الحضارة السومرية- الآشورية- البابلية، تبقى حضارية بدائية ولدت وماتت في أحضان الكهنة- المعبد. وأخضعت العقل البشري وكافة فروع الحياة للفلسفة الماورائية التي تتسم بمحدودية التفكير وبطئ حركة التطور، ذلك لأِن الدين هنا يصبح وعاء الحضارة وبيئة مقيدة لحركة ونمو عناصرها. بكلمات أُخرى كان الدين في هذه الحضارة هو المتغير المستقل بينما شكلت عناصر الحياة المادية والحضارة الدنيوية عوامل متغيرة تابعة لهذه الحاضنة الجامدة (الدين). هذا على خلاف الحضارة الحديثة التي وفرت بيئة اجتماعية هيأت لفكر الإنسان الانطلاق إلى آفاق رحبة بعيداً عن القيود والحدود والمحرمات من أجل اكتشاف المجهول وفق مناهج البحث الحديثة ومنطق العقل والتفكير غير المحدود والاستناد إلى مبدأ الشك في كشف كنه المجهول ومحاولة الإجابة عن (لماذا) حدث هذا وذاك وسبل مواجهته (كيف). فعندما يصبح الدين وعاء الحضارة عندئذ يتقيد الفكر وعناصر الحضارة بقيود الطقوس الميتافيزيقية بما فيها من مطلقات وغيبيات وخرافات ومسلمات وثوابت وحدود وقيود لغاية تكلسها وموتها.
وفي ظروف هذه الحضارة الدينية لوادي الرافدين، ورغم أنها نقلت البشرية من عصر ما قبل التاريخ إلى عصر التاريخ (اختراع الكتابة)- وأقامت أول مجتمع سياسي منظم في تاريخ البشرية بسلطته السياسية ونظامه الاجتماعي- الاقتصادي وقوانينه المستمدة من نظام الحكم السماوي ونواميسه.. فإِن ولادة هذه الحضارة من رحم المعتقدات الدينية قادتها إلى بناء بيئة اجتماعية ترتكز على أربعة أركان أساسية لا تتفق ومتطلبات السير باتجاه الحضارة المعاصرة: أولها المعتقدات المطلقة في التعامل مع عناصر الحياة الدنيوية النسبية.. وثانيها العنف باعتباره وسيلة سماوية لحل المعضلات الدنيوية ولتعظيم الإِله الحامي والملك.. وثالثها الغيبيات- السرية التي تخص الآلهة- الملائكة والشياطين- الجن والعفاريت غير المنظورة.. ورابعها وحدانية القيادة السياسية التي تجسدت في (مبدأ التفويض الإِلهي للملك) والحكم المطلق والعلاقات الأبوية.. وهي ذات الأركان الأربعة للبيئة الاجتماعية للعراق الحديث، مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات النسبية في الدرجة والتفاصيل

ايسوس العراق

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 7:06 pm

النظام الاقتصادي
(الزراعة، التجارة، والحرف)



شكلت الزراعة أساس الحضارة وعماد المدينة السومرية، كما هو حال البلاد في الوقت الراهن، خاصة عند استبعاد النفط. وتميزت المدينة السومرية بميزتين بارزتين: هما نظام الري ومعبدها الرئيس(1). واشتهرت بلاد الرافدين في كافة عصورها الحضارية بِأولوية الزراعة(2). ومع أن الزراعة بقيت المصدر الأساس للازدهار الاقتصادي، فإن التجارة الخارجية- التي جاءت لاحقاً- حققت مصدراً لا يقل عنها أهمية وشأناً. ويرتبط بذلك فقر البيئة الطبيعية التي نشأت فيها حضارة وادي الرافدين من المواد الاولية الضرورية(3).
جسَّدت أعمال الري جانباً أساسياً في حضارة جنوب وادي الرافدين وقادت إلى تقوية المنظمة الاجتماعية والسلطة. كان هذا واضحاً في استغلال كل جزء متاح من الأرض على امتداد مساحة ألـ 11500 ميل مربع للسهل الرسوبي. وكانت القنوات تشكل إنجازات عظيمة، عبَّرت عن واحدة من ثلاثة أعمال ضخمة افتخر بها ملوك سومر واكد وبابل إلى جانب الانتصار في الحروب وبناء المعابد. إن أول قناة موثق في كل التاريخ البشري لا زال قائما جزئياً وهي Al-Gharrif على دجلة في الكوت. تم حفرها من قبل حاكم كيش قبل منتصف الألف الثالث ق.م. قناة أُخرى موثقة في السنة التاسعة لحكم حمورابي باسم Hammurabi-hegal تطلب حفرها 24 سنة. بينما مدونة حكمه في السنة الثالثة والثلاثين تذكر قناة Hammurabi(spells)aboundance -for-the-people التي وفَّرت المياه الدائمة لكل من نيبور، اور، اوروك، ايسن. وكانت القنوات كذلك تعمل كخزانات لتخفيف اندفاع المياه أثناء الفيضان(4).
تمتد علاقات بلاد الرافدين في مجال التجارة الخارجية إلى عصور ما قبل التاريخ، خاصة بالعلاقة مع البلدان القريبة في الشرق الأدنى: إيران، آسيا الصغرى، سوريا، مصر، وبعض أجزاء البحر المتوسط. تركزت الواردات في المعادن والأخشاب والأحجار بضمنها الأحجار الكريمة، علاوة على العاج والتوابل والعطور والبخور واللبان. بينما شملت الصادرات المنتجات الزراعية والحيوانية بضمنها الحبوب والأصواف والجلود والمنسوجات والخمور والزيوت والأواني الفخارية والأختام الاسطوانية(5).
عرف سكان وادي الرافدين منذ العصر الحجري صناعة الفخار والأواني المنزلية والأدوات والآلات الزراعية والحياكة وصناعة المنسوجات. ومع حلول الألف الثالث ق.م ظهرت صناعة القطع الفنية من تماثيل ونصب ومسلاّت. وكان النحاس أول معدن استخدموه منذ العصر الحجري- المعدني، ثم الفضة والذهب والرصاص، وعرفوا صناعة البرونز بخلط القصدير والنحاس. ومن الصناعات (الحرف) المهمة الواردة في الوثائق المسمارية المكتشفة صناعة الجلود وبناء السفن، النجارة والبناء، البواري والحصر والقصب والحلفاء على نحو ما يلاحظ حالياً في العراق. وكانت تربية ورعي المواشي- الغنم، الماعز، الخنزير، البقر- وصيد الأسماك من مصادر الثروة المهمة. وهناك نصوص تعود إلى عصر فجر السلالات تشير إلى وجود مشاغل (ورش) متخصصة في المعابد بضمنها مشغل للخياطة. وكانت صناعة البيرة (الجعة) والشراب (الخمور) بِأنواعها منتشرة تستخلص من التمور والكروم، وتخصصت المرأة في إدارة محلات بيعها (صاحبة الحانة)، وتمتع صانعوها بمباركة الآلهة. "إنها الإلهة ننجرس Ninkasi التي تملآ أفواه الآلهة بشراب قوي. وتساعد على نضوج وتحسين جودة الشراب أثناء تخميره. وعندما يصبح جاهزاً، تُشارك انانا- عشتار نفسها في الشرب(6)."
يُعَدْ عصر فجر السلالات من عهود الرخاء الاقتصادي المتميزة في حضارة وادي الرافدين بالعلاقة مع خصب الأرض وجهاز ري منظم، رغم مشكلات الفيضانات والملوحة. وكان بوسع سكان وادي الرافدين العيش بسهولة على المحاصيل الزراعية من إنتاج أرضهم ومبادلة الفائض مع الخارج. ومع أنهم كانوا يزرعون مختلف أنواع الحبوب، بقي الشعير، ولم يزل، المحصول الرئيس لتحمله النسبي للملوحة. ورغم أن طرق الزراعة كانت بدائية لكنها كانت شافية في نفس الوقت، وجرى وصفها بشكل مفصل في نص مسماري كُتب العام 1700 ق.م والمعروف بـ (تقويم المزارع السومري) متضمناً ارشادات يقدمه مزارع لابنه بكيفية تهيئة حقله للزراعة: تسويته وحرثه وبذره وريه وحصاد المحصول ودرسه وتذريته.. وأخيراً، وكما ورد في (سفر راعوت- التوراة) ينصح المزارع ابنه "بجعل الأرض تقدم قوتاً للصغار واللقاطة بترك بعض السنابل الساقطة على الأرض(7)." خُمِّنَ محصول الحنطة المنتج جنوب البلاد أوائل حضارتها "بحجم يمكن مقارنته مع إنتاج أفضل حقول الحنطة الكندية المعاصرة(8)."
تتوافر في الكتابات الأدبية تشبيهات منزوعة من الحياة الزراعية، كما في تشبيه تحمل الظروف القاسية بـ "صبر القصب". وفي إحدى كتابات العصر البابلي القديم يُدلل الكاتب أُمه "إن أُمي مطر السماء...الماء الجاري الذي يروي أحسن البذور... الحصاد الوفير الذي يقدم محصولاً ثانياً... بستان مملوء بالمرح... شجرة الشربين المملوءة بالمخاريط... الفاكهة الأُولى المبكرة... قناة تجلب المياه الوفيرة إلى قنوات الري، إنها تمر دلمون الحلو في موسمه(9).
كما وفَّر الطقس الحار والرطب لجنوب البلاد بيئة ملائمة جداً لنمو أشجار النخيل. وتبين النصوص المسمارية وجود غابات النخيل الشاسعة في بلاد سومر منذ وقت مبكر جداً يعود إلى الألف الثالث ق.م، رغم صعوبة معرفة مكانها الأصلي وتاريخ بداية وجودها. وكانت النخلة أهم شجرة ومحور الحياة الاقتصادية. ومع وجود الخبز والتمر (ويمتلك الأخير قيمة حرارية عالية- غذاء متكامل)(10)، عندئذ يكون قد توفَّر الغذاء الرئيس للسكان. ومع أنهم كانوا يربون الماشية، فإِن القنوات والبحيرات (الأهوار) والخليج كانت تزودهم بالسمك الوفير. وزُرعت الفواكه في ظلال أشجار النخيل، علاوة على زراعة الخضروات(11). وهكذا توفرت- عدا أزمنة المجاعات الاستثنائية الناجمة عن الحروب والكوارث الطبيعية- غذاءً غنياً متنوعاً. وكان السكان عموماً في هذا المضمار أفضل بكثير من جيرانهم في إيران وآسيا الصغرى وسوريا(12).
عرف سكان وادي الرافدين منذ أقدم الأزمنة فوائد أجزاء النخلة، فاستعملوا ثمرها واستخرجوا منها أنواعاً عدة من الخمور وكذلك الدبس والخل. واستعملوا البذور وقوداً ثم علفاً بعد سحقه. وصنعوا من السعف والجريدة الأثاث ولوازم الحياة اليومية، ومن اليافها الحبال، ومن خوصها الحصر والسلال، ومن جذوعها مادة للوقود وتسقيف البيوت. جاء في نص بابلي متأخر 365 فائدة للنخلة، وعددت أُغنية تدمرية فوائدها بثمانمائة، وقال المؤرخ سترابون أن النخلة تزود البابليين بكل حاجاتهم عدا الحبوب. وعرف أهل الرافدين منذ أقدم الأزمنة طريقة تكاثر النخيل بالفسيل وهي الطريقة الغالبة، والتلقيح الأصطناعي، وترك المسافات المناسبة بين أشجار النخيل. وذكرت النصوص المسمارية درجات الجودة في بعض التمور، ولا تزال التعابير المستعملة في زراعة النخيل وجنيه تحتفظ بِأصلها البابلي مثل (تال) و (تبلية)- آلة التسلق- والشيص (التمر الرديء). وصورت النخلة على أختام كثيرة وظهرت في مسلة من عصر اسرحدون الآشوري. وفي رسالة من العصر البابلي القديم يُشبه المرسل أُمه بالنخلة: طيبة الرائحة، مدللاً كونها خير وبركة. "ولم تكن شجرة الحياة المقدسة في المنحوتات الآشورية سوى النخلة." وكانت الإِلهة (انانا)- عشتار- ربة مخازن (عذوق) التمر، وزوجها (دموزي)- تموز- رب التمور والحياة الجديدة في النخلة. وكان مسكن عشتار هو بيت عذوق التمر(13).
استعمل المزارعون في بلاد الرافدين وسائل شتى لري أراضيهم منذ العصور المبكرة، منها: الدالية- الدلو، الناعور المائي، الكرد. وكانت أعمال الري جزءاً رئيساً من اهتمامات الملوك في مختلف مراحل حضارة وادي الرافدين. وبلغ اعتناء حمورابي بالري درجة بحيث تم تثبيت تقويم التاريخ لبعض سنوات حكمه بما فتح من مشاريع للري. كما اهتم ملوك العصر البابلي الحديث بشؤون الزراعة والري، خاصة نبوخذ نصر الثاني الذي حفر قناة أسماها (قناة جالبة الخير) لتوجيه مياه نهر الفرات، وهي تحتوي على خزان اصطناعي كبير يمكن فتحه وغلقه عند الضرورة(14).
شكل المعبد قلب دولة المدينة وأحد محورين مركزيين في النشاط الاقتصادي- الاجتماعي، إلى جانب القصر (ق10/3). احتفظ بحقوله ومواشيه وأدواته وآلاته الزراعية وورشه ومشاغله الحرفية التي عمل فيها الناس من مختلف الفئات: مهنيين وحرفيين وعمال من أحرار وعبيد. وكانت السلطة الدينية للمعبد توفرله إمكانية دعوة الناس لخدمة ممتلكات الإِله بالعمل المجاني (السخرة) من وقت لآِخر. وعمل التجار والحرفيون وغيرهم تارة لحسابهم وأُخرى لمصلحة المعبد. وإضافة للحصة العالية للمعبد من الأراضي الزراعية، كان للقصر- الملك وحاشيته من النبلاء والكهنة وكبار الموظفين أراضٍ واسعة، وما بقي من أراضي المدينة كانت مجالاً للتملك الفردي(15).
بكلمات أُخرى، كانت الملكية الخاصة متاحة للأحرار (امتلاك: البيوت، البساتين، برك الاسماك، الحمير، الأغنام، الماعز..)، في حين كانت أراضي دولة المدينة موزعة في معظمها بين القصر والمعبد. والغالب أن عامة الناس كانوا يفضلون العمل أُجراء في أراضي القصر أو المعبد لقاء إعالتهم ودفع تكاليف معيشتهم، تخلصاً من تراكم الديون والعبودية(16). وبالنتيجة أصبح العمل الحر، خاصة ملكية الأراضي الزراعية بالنسبة لعامة الناس محدوداً ويتحمل مخاطر عالية. حيث ولَّتْ أيام كان الفلاح سعيداً وملكية الأراضي مشاعة(17). يقول جورج رو "وإذا كان يتوجب إطلاق تسمية ما لمجتمع كهذا تركزت أغلب وسائل الإنتاج فيه بيد (دولة قيادة الكهنة)، والذي وجدت فيه الملكية الفردية أيضاً، فيمكن أن تكون تسمية (الاشتراكية الثيوقراطية) مقبولة(18)."
وهكذا، فعلى خلاف الأيام الخوالي حيث كانت الأرض مشاعة، تمتع المزارع بحرية الملكية الفردية، وكانت الزراعة مصدر رفاهيته، وكان يُشار إلى الفلاح السومري أوائل نشوء حضارته "رمز السعادة"، أصبحت حياة الفلاح بسيطة مع ظهور السلطة المنظمة، ومستواه المعيشي منخفضاً، حتى تولَّد الاعتقاد أن الفلاحين كانوا يباعون ويشترون مع الأرض التي يعملون عليها شأنهم شأن الفلاحين في ظل النظام الإقطاعي الذي ساد العصور الوسطى

ايسوس العراق

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة ايسوس العراق » الأحد مارس 30, 2014 7:07 pm

المؤسسة السياسية


شكلت حضارة سومر أُولى الحضارات البشرية الناضجة التي أهدت للبشرية نظاماً اجتماعياً بجوانبه المتعددة المتكاملة (نظام الحكم، الدين، القانون، الأخلاق، الكتابة..) كتب طه باقر "ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا أكدنا أن حضارة وادي الرافدين تفردت بأول ظهور لنظام دولة المدينة على أنه أول شكل من أشكال الحكم في التاريخ البشري." وذكر جورج بوييه شمّار أنه "عميق الاقتناع بِأن سومر هي مهد الحضارة… وأن الرقي الذي وصلت اليه بلاد ما بين النهرين لم تصل اليه أية أُمة أُخرى من الأُمم القديمة...(1)" بينما جعل كريمر عنوان أحد أهم كتبه في حضارة وادي الرافدين (التاريخ يبدأ من سومر). كما أكد عالم الآثار الانكليزي ليونارد وولي "بِأن الحضارة السومرية كانت أول حضارة بالفعل(2)."
تميزت الحضارة السومرية منذ نشوئها في عصر فجر السلالات بالعلاقة مع خصائصها السياسية بظهورها على أساس عدة دول مدن مستقلة لكل منها حدودها وأسوارها وأُسرتها الحاكمة وإِلهها الحامي (الوطني) ونظمها وقوانينها. شكلت دول المدن السومرية هذه أُولى الأنظمة السياسية المعروفة وأساس نشوء المجتمع السياسي المنظم. وكانت كل مدينة من هذه المدن مركزاً سياسياً واقتصادياً ودينياً تضم القرى والمزارع المحيطة بها. وهو ما أُصطلح عليها بـ (دولة المدينة) City State. وبالعلاقة مع عقيدة القوم الدينية: إن ما يحدث في السماء يقع نظيرها في الأرض، وأن الآلهة خلقت البشر لخدمتها، والمدينة بما فيها من أرض وموارد، هي مُلك (الإِله الحامي)، من هنا، على أهل المدينة المحافظة عليها وتوسيعها. كما قررت الآلهة أيضاً أن تهب البشر النظام الملكي الذي يحكم مجتمعها في السماء، فاصطفت من بينهم من ينوب عنها أو يمثلها وينفذ أوامرها ومنحته شارات الملوكية القابعة في السماء.
وتشير النصوص المكتشفة إلى هذه الملكية السماوية المقدسة، وتؤكدها (وثيقة الملوك السومرية) التي تبدأ فاتحتها بالقول "هبطت الملَكية من السماء في اريدو قبل الطوفان(3)." بينما تضمنت أسطورة (ايتانا والنسر) "صعود ايتانا إلى السماء،" ف16/4، وهبوط الملكية من السماء إلى الأرض بعد الطوفان في مدينة كيش، إضافة إلى النواميس الإِلهية (مظاهر أو فنون الحضارة التي أوجدتها الآلهة ومنحتها للبشرية لتنظيم مجتمعاتهم)، حيث عددت الأسطورة بحدود مائة عنصر من عناصر التحضر(4)، لصالح نشوء المدنية والتحضر(5).
وهذا النظام الإِلهي يشكل أصل نظام الحكم في حضارة وادي الرافدين القائمة على الملكية الوراثية والتفويض الإِلهي، وبذلك فإِن السومريين هم أصحاب مذهب الحق الإِلهي المقدس The Divine Right Of King الذي نشره توماس هوبز Thomas Hobbs (1588- 1679)(6). ونظراَ لأِهمية الملك باعتباره مصدر رفاه شعبه وأن أي شر يلحقه يضر بالبلد، عليه تمت حمايته بمختلف الطقوس(ف6). فإِذا ظهرت علامات سماوية أو أرضية يرى الكهنة في تفسيرها نذر شؤم وشراً يلحق بشخص الملك، تحتم عليه حينئذٍ الاختفاء لفترة زمنية (بحدود مائة يوم) حتى تزول تلك العلامات ويعود الملك إلى عرشه. وهذا ما عُرف في حضارة وادي الرافدين بطريقة (الملك البديل)، حيث يختفي الملك الحقيقي فترة الخطر بعد أن يعين (الملك المؤقت) محله، وبعد زوال فترة الشؤم يعود الملك الحقيقي إلى عرشه ويأمر بتصفية الملك البديل. حدث هذا فعلاً في عصر دول المدن الثاني- سلالة ايسن (2017-1794 ق.م) عندما تنازل الملك التاسع في هذه السلالة (ايرا- ايميني) عن عرشه مؤقتاً لصالح البستاني (انليل- باني). ولكن قبل أن تزول فترة الخطر (ف6)، مات الملك الحقيقي "بعد أن فرط حساءً ساخناً." وصار البستاني ملكاً حقيقياً على ايسن وحكم طوال عشرين عاماً(7). طُبقت عادة (الملك البديل) كذلك في العصر الآشوري، حيث وجدت رسالة من عهد آشور بانيبال تشير إلى اختيار الملك البديل من بين أحد النبلاء الاكديين ليمارس دور الملك بعد تزويجه بسيدة من البلاط الآشوري، ثم جرى قتلهما بعد انتهاء فترة النحس وزوال العلامات وعودة الملك الأصيل إلى عرشه(8).
اعتبر الآشوريون الأيام 7، 14, 21، 28 أياماً نحسة يمتنع خلالها الملك عن تناول طعام مطبوخ أو لبس حلّة نظيفة أو ركوب عربة. ولا يمارس الكهنة التكهن، وحتى الطبيب لا يضع يده على مريض. وهي تحمل نفس العقيدة البابلية (ف9) التي شكلت أصل العطلة الاسبوعية في الأديان الثلاث الرئيسة. واعتبر كذلك اليوم الأول من السنة الجديدة يوم شؤم، وجب على الملك أن يبدو كفلاح ويصوم فيه لخير شعبه(9).
ولكن رغم هالة القدسية التي أحاطت بالملك، فقد استمر التأكيد على شخصه باعتباره بشراً، ولم يصل إلى مرحلة التأليه إلا استثناءً. وللتأكيد على ذلك شملت طقوس أعياد رأس السنة في يومها الخامس حضور الملك أمام تمثال إِله المدينة مع الكاهن الأعلى وخلعه جميع شارات الملوكية دلالة على نزع الملوكية عنه (ف10/2). وبعد أن يُقدم إعترافه أمام تمثال الإِله بِأنه قام بتنفيذ جميع رغبات الآلهة وأشرف على أملاكها ومساكنها، تُعاد له شارات الحكم ليُصار من جديد ملكاً على البلاد(10).
ولأِن إِله المدينة (الإِله الحامي) هو الملك والمالك لها، وأن الناس خُلقوا لخدمته وطاعته، وأنه أختار من بينهم الملك لتمثيله في الأرض وتنفيذ أوامره وتعظيمه، لذلك فمن أولويات واجب الملك قيادة شعبه لرفع شأن ومنزلة الإِله الحامي (الوطني) في مجمع الآلهة، وهو ما يجسد في نفس الوقت رفع شأن مدينته ورفع منزلته بين الملوك. كما أن نظام الملوكية في بلاد الرافدين قام أصلاً على أساس ديني وأن العلاقة بين الملك والإِله الحامي تتمثل في أن انتصار الحاكم في الحرب يعزز دور إِلاهه ومنزلته ورخاء مدينته(11).
وهنا ربما يقبع أحد المبررات الرئيسة ذات الجذور الدينية العميقة لظهور النزاعات والصراعات بين دول المدن المختلفة والتي إستمرت بصفة متصاعدة في المراحل اللاحقة من حضارة وادي الرافدين، سواء كان هذا الصراع دفاعاً عن أرض الإِله من الهجمات المعادية أو بهدف توسيع أرض الإِله الحامي من خلال الفتوحات العسكرية. وعامل التبرير هذا لا ينفي بطبيعة الحال الدوافع الاقتصادية بقدر ما يمنحها زخماً أكبر كترجمة عملية لهذه الصراعات. من هنا يبدو أن التنافس والتناحر بدأ منذ نشأة هذه المدن وأنظمتها السياسية القائمة على العقيدة الدينية للاستحواذ على الأراضي الزراعية ومصادر المياه وطرق التجارة الموصلة إلى المواد الاولية، خاصة وأن ابتلاع مدينة لأِخرى كان يعكس حسب عقيدة القوم أحداثا مرادفة في السماء. من هنا صار هذا النظام الإِلهي المقدس (النظام الملكي) الأقل استقراراً في وادي الرافدين.(12) وهكذا ظهرت الحروب المنظمة لأِول مرة في تاريخ الحضارة في عصر فجر السلالات، وتضمنت وثيقة (اثبات الملوك السومرية) هذه النزعة العسكرية(13).
وكانت القاعدة العامة في جميع الأدوار التاريخية لحضارة وادي الرافدين اختيار موقع المدن بالقرب من مجاري المياه الرئيسة(14). بينما ضمّت دولة المدينة مركز المدينة مع المعبد والقصر وبيوت السكان الحضريين ضمن سور المدينة، في حين شملت ضواحي دولة المدينة على المعبد المخصص لأِعياد رأس السنة في بداية الربيع ومساكن وحقول المزارعين وبساتين المدينة وحظائر الماشية. أما القسم الثالث فكان يشمل الميناء والتجارة ومستودع البضائع.
وكان المعبد المركز الاجتماعي لحياة المدينة من النواحي الدينية والاقتصادية والسياسية. انفرد المعبد بهذا المركز عند نشوء المدينة ثم أخذ يضاهيه ويزاحمه في النفوذ تدريجياً قصر الحاكم من حيث السلطة والمساحة والتنظيم، وليستمر رجحان كفة القصر منذ تولى الاكديين الجزريين (الساميين) زمام السلطة، واتضح هذا الاتجاه بدرجة أكبر في العصر البابلي القديم. وهو ما يُفسَّر عادة بنشوء ظاهرة فصل السلطة الزمنية (سلطة الملك) عن السلطة الدينية (المعبد)(15). ومع ذلك علينا أن لا نفهم من هذا التطور السياسي لتعاظم سلطة الملوك على أنه بداية للتوجه نحو العلمانية، بقدر ما عبَّر عن إعادة توزيع السلطة وتحولها تدريجياً من المعبد إلى القصر، لتمتد سلطة الملك (ممثل الإِله) بالهيمنة على شؤون دولته ولغاية تعيين الكاهن الأعلى حتى يمارس نيابة عن الملك الشؤون الدينية. ذلك أن الحياة الاجتماعية لحضارة وادي الرافدين بقيت تستمد جذورها وديمومتها من العقيدة الدينية التي شكلت وعاء هذه الحضارة. فاستمرت الحياة الدنيوية متغيراً تابعاً للحياة الدينية على مدى تاريخ حضارة بلاد الرافدين، بل والفترة اللاحقة عليها. ويرتبط بذلك أن الحاكم بقي رأس السلطة الزمنية والدينية بدءاً بالملك السومري ومروراً بالملك الآشوري، ولغاية الملك البابلي باعتباره ممثل/نائب الإله. وبقيت واحدة من الوظائف الأساسية للملك هي بناء المعابد وتعيين كهنتها الكبار ورعاية الإحتفالات الدينية الكبيرة(16). ولقد مرَّت فترات أصبح فيها الحاكم في صراع مكشوف مع كهنة المعبد(17)، كما حصل في عهد اوروكاجينا (ف13).
تُسجَّل للمجتمع السومري- الذي انفرد بِأول ظهور للمجتمع السياسي المنظم (دولة المدينة) خاصية في غاية التحضر وفق المفهوم الحديث، وهي غياب أي أثر للنظام القبلي في هذا المجتمع. وبدلاً من الأنظمة القبلية نشأت هيئات سياسية واجتماعية منذ أبعد العصور التاريخية، مثل مجلس المدينة الذي ضمَّ مجموعة مواطنين لإدارة المدينة. ولعلَّ تفسير ذلك هو أن الوحدة السكانية في السهل الرسوبي في هذه الحضارة اعتمدت ابتداءً على الاقتصاد الزراعي وجهاز الري والتجارة، فنشأت أُولى مراكز التمدن والعمران والتحضر urbanization، ونمت فكرة المواطن والمواطنة citizenship والولاء للمدينة- الدولة- بدلاً من الولاء القبلي(18). وفوق ذلك تكشف النصوص الاقتصادية التي عُثِرَ عليها في لكش (تلو) وشروباك (فارة) انخراط السكان العاملين في تنظيمات مهنية (نقابات) بضمنها تلك الدقيقة التخصص(19). مما يوحي بوجود نوع من منظمات المجتمع المدني في حضارة وادي الرافدين منذ فجر عصر السلالات.
وهكذا فإِن المجتمع السومري كان أبعد ما يكون عن البدائية، بل كانت الحياة الاجتماعية في المدن السومرية راقية مقارنة بالمناطق الأخرى وسادها التنظيم المتكامل. وعُرف الشعب السومري صارماً في عمله وجهده وذا عقلية "بيروقراطية" ترك الآلاف من السجلات والقسائم والعقود. وخلَّف حضارة معطاء مفتوحة. تؤكد عبارة وردت في نص شعري سومري كُتبت في مدح مدينة (اور) أنه حتى مواطن مارهاشي (منطقة جبلية تابعة إلى بلاد عيلام- إيران) أصبح متمدنا عندما عاش في مدينة اور. هذه المدينة التي ساهمت كثيراً في إنجاز عملية التمدن(20). والتالي تعبير شاعري لمفكر سومري عن واقع التفوق الحضاري للقوم على جيرانهم "ايه سومر، أيتها الأرض العظيمة بين كل أراضي الكون، أنتِ التي يغمرك ضوء لا يخبو، يا من تسنين القوانين الإِلهية لكل الشعوب من المشرق إلى المغرب(21)!" ويقول كريمر في مؤلفه السابق الذكر "كان السومريون يتمسكون بالطيبة والصدق، بالقانون والنظام، بالعدل والحرية، بالاستقامة والصراحة، بالرحمة والشفقة، وكانوا يمقتون الشر والكذب، والفوضى والاضطراب، والظلم والقهر، والأفعال الآثمة والإِيذاء، والقسوة وعدم الشعور(22)."
تمتد جذور أصول نظام دولة المدينة-على الأرجح- إلى زمن نشوء أُولى مراكز الاستيطان البشري في السهل الرسوبي منذ الألف السادس أو الخامس ق.م، وكانت هذه المستوطنات تقوم على الزراعة المروية بما تتطلبها من جهود جماعية ضخمة ومنظمة للسيطرة على مصادر المياه (شق الترع، بناء السدود والخزانات، درء أخطار الفيضان..) وتغطية الاستهلاك المحلي من الإنتاج وتبادل الفائض مع الخارج. وهذه الأمور ما كانت لتتحقق دون وجود سلطة قوية تضمن الأمن والنظام. وهناك إتفاق على أن النظام السياسي للمدينة السومرية في عصورها المبكرة اقترن بشيء من الديمقراطية البدائية، إذ تواجد في المدينة مجلسان أحدهما للمسنين والآخر للشباب القادرين على حمل السلاح وبيدهما سلطة إدارة شؤون المدينة(23). وهذا ما يدعمه قصة كلكامش عند تسلمه انذار حاكم مدينة كيش المجاورة بالاستسلام أو الحرب، عرض كلكامش الأمر على مجلس المسنين أولاً ثم على مجلس الشباب قبل أن يتخذ قراره (ف16/1).
وفي ظروف الأزمات التي كانت تواجه المدينة (المخاطر الخارجية، الفيضانات، الأوبئة..) كان المجلسان ينتخبان حاكما (انسي) لممارسة السلطة الزمنية الإدارية والعسكرية إلى جانب الكاهن الأعلى (اين). ففي نص سومري "اجتمع أهل كيش واختاروا لملكية كيش Ipuhurkish من أهالي كيش." وكان صعود اوروكاجينا لعرش لكش نتيجة "خلع دائرة الشعب للملك السابق وانتخابهم له(24)." ومع ولادة وظيفة ألـ (انسي)- الحاكم الزمني- بدأ الإنفصال التدريجي بين السلطتين الزمنية والدينية باتجاه إعادة توزيع السلطة بين القصر والمعبد تدريجياً لصالح الملك منذ بدء عصر فجر السلالات، وبقيت آثارها التي عكست قدراً من التنافس بينهما لغاية آخر العهود البابلية وآخر ملوكها (ف9).
وكان مجيء اوروكاجينا إيذاناً لبناء استقلال سلطة الملك بالاتجاه نحو الانفصال التام عن سلطة الكهنة. أصبح للحاكم قصره الخاص، ونمت حوله فئة جديدة من الموظفين ليدير منه شؤون الدولة. ويبدو أن الحاكم المنتخب احتفظ بصلاحياته ووظيفته، وكذلك الحال بالنسبة لبقية المراكز القيادية في دولة المدينة التي كانت تميل أن تكون بيد شخص واحد على نحو ثابت ووراثي. وأخذ الحاكم بتقليص نفوذ وسلطات المجلسين واخضاعهما لسلطته "ونتيجة لذلك فإِن المنظمة الديمقراطية الأصيلة كانت تفسح المجال إلى نظام حكام ومحكومين(25)."
يؤكد ذلك جاكسون في نظريته القائلة أن الملكية ذات التفويض الإِلهي جاءت لاحقاً على نظام سومر الذي قام أصلاً على نوع من "الديمقراطية البدائية" Primitive democracy، وأن الملكية لم تظهر لغاية وقت متأخر من العصور الشبيهة بالتاريخية عندما بادر الحاكم المنتخب لفترات قصيرة عند الأزمات بالسيطرة على دولة المدينة وتحويل المجالس المحلية إلى هيئات إستشارية. ويدعم نظريته هذه استناداً إلى (ملحمة الخليقة) التي تصف كيفية انتخاب (انليل) أو (مردوخ) لمنزلة بطل الآلهة لمحاربة تيامة والانتصار عليها، وذلك بالعلاقة مع عقيدة القوم أن ما يحدث في السماء ينعكس على الأرض. وهكذا فإن المعلومات الوثائقية التاريخية والدينية والأسطورية "لا تترك مجالا للشك" أن دولة المدينة السومرية بزغت إلى التاريخ مع مجلسين أحدهما للشيوخ والآخر للشباب (المحاربين). وكانت الجمعية العامة بمجلسيها تختار أشخاصا سواء للقيام بإدارة أعمال المدينة و/أو اختيار قائد عسكري مؤقت أيام الأزمات. ويظهر أن زيادة الثروة والتعقيدات الاجتماعية والطموحات الشخصية، عملت على استمرار هؤلاء وتوريث وظائفهم لغاية ظهور الملك الاوتوقراطي. وبذلك فقدت الديمقراطية التقليدية traditional emocracy معظم قوتها(26).
ظهرت الدولة المركزية في العصر الاكدي وشكلت سلالة اور الثالثة إمبراطورية "أُديرت بإحكام(27)." واستمر الملك في كافة مراحل حضارة وادي الرافدين الحاكم المطلق ومصدر الشرائع بإعتباره منفذاً لإرادة الآلهة(28). وأدت مركزة السلطة السياسية والاقتصادية بيد ملوك اور إلى تكوين مجتمع تهيمن عليه الدولة داخل أقليم موحَّد إدارياً(29). وكانت إحدى الخصائص المميزة للعصر البابلي القديم تعاظم سلطة الملك على حساب سلطة المعبد. بلغت هذه الظاهرة أوجها إبان حكم حمورابي الذي نقل جميع السلطات من المعبد إلى القصر. كما طبَّق حمورابي قانوناً موحَّداً شمل أرجاء مملكته التي أدارها بمركزية شديدة ومتابعة يومية وزيارات ميدانية لحكام مقاطعاته، وطبق نظام منح الأراضي مكافأة للخدمة المتميزة في الحروب وللموظفين الأكفاء. وبقي الملك الآشوري يجمع في شخصه السلطات الزمنية والدينية باعتباره الحاكم المطلق والكاهن الأعلى. وكان جهاز الدولة من كبار الموظفين وصغارهم مدنيين وعسكريين "خدم الملك العظيم" الذي يستمد سلطته من الإِله آشور وبقية الآلهة العظام(30). كما ورثت الملكية في آشور وبابل صلة قوية بماضٍ بدوي عندما كان أفراد القبيلة جميعاً يستطيعون الاتصال بالشيخ. "غير أن الملوك الآشوريين بخاصة اقتربوا في الألف الأول ق.م من ذلك النوع من الحكم المطلق الذي كان الأغريق يمقتونه(31)."
وكان نظام الجيش والحروب محور المجتمع الآشوري، وتشكل الجيش أول الأمر بالدرجة الأولى من الفلاحين في بلاد آشور. وبدأ الملوك منذ مطلع عهد الإمبراطورية الثانية يؤلفون جيوشاً من أهل المقاطعات التابعة للإمبراطورية. وظل الآشوريون من طبقة الأحرار يدعون للخدمة العسكرية ولكن كان باستطاعتهم أن يجهزوا الملك بعبيدهم مع أسلحتهم وعدتهم(32). بينما شهد عهد نبوخذ نصر الثاني (العصر البابلي الحديث) قيام الجيش النظامي الذي يتطلب الانفاق المنتظم لإعالته وتجهيزه. كما شهد هذا العهد ليس فقط عودة تعاظم أهمية المعبد في الحياة الدينية بل كذلك في الحياة الاقتصادية للمجتمع البابلي بدرجة تضاهي أهمية المعبد في عصر فجر السلالات.

صورة العضو الشخصية
عاشق الرافدين
Sergeant - Arif
Sergeant - Arif
مشاركات: 219
اشترك في: الثلاثاء إبريل 24, 2012 12:21 am
مكان: بغداد
اتصال:

Re: حضارة وادي الرافدين، ميزوبوتاميا،

مشاركة بواسطة عاشق الرافدين » الجمعة يوليو 18, 2014 10:41 pm

أحسنت فــــــــــــــــــــــــي الاختيار
وأبدعت فـــــــــــــــــي الانتقاء

(( اخ ايسوس العراق ))
المثابرة والنشاط والعطاء صفتك وعنوانك
حياك الله وبارك بك وبجهودك الطيبة
سلمت أناملك الذهبية على ماكتبت من مساهمة
جميلة
كم أنا سعيد وأنا أمتع ناظري بموضوعك الجميل

دمت بحفظ الرحمن

جزأك الله خير الجزاء وبارك بك وأسكنك الفردوس الأعلى مع الصديقين

وافر شكري وجل احترامي وجميل تقديري وصادق ودي وصدق محبتي
أنــا عاشـــــــــق الرافـــــــــديـــــــــــن

أضف رد جديد

العودة إلى “سومر، أكد، بابل، اشور، 4000 ق.م - 539 ق.م”